وبعد يومين من قتل الآذري، استدعاني اليوزباشي بوخ إلى غرفته، ولم يكن بي أدنى خوف، كنت مستعداً لكل شيء. إذا كان الترخيص الذي أعطيته للآذري هو موضوع الحديث فمعنى هذا أنني ميت. لقد أقسمت ألا أخاف من الموت. لم أستطع أن أتمالك نفسي من التفكير في الترخيص، قبل أن أدخل الغرفة كنت سأتقدم. بمجرد أن يفتح اليوزباشي بوخ الموضوع إلى الألماني الخنزيري الوجه وأبصق على وجهه.
فتحت الباب، ودخلت الغرفة. حييته بتحية جادة. بادلني اليوزباشي بوخ السلام واستقبلني بلطف وأشار إليّ بالجلوس. جلست. عيناه التي أراها عدة مرات تقذف شرراً وأخاف منها أجدها الآن هذا الصباح ذات نظرات هادئة سألني قائلاً:
- أي علف يقدمونه للجياد في وحدات مدفعية الجيش الأحمر؟
كان هذا سؤالاً غريباً. ترى هل لليوزباشي قصد خفي، فبدأ بهذا السؤال:
هكذا كنت أفكر، ثم إنني تعجبت لاهتمام الألمان بمثل هذه الأشياء، كنت لا أدري كيف أجيبه عن هذا، فقلت له:
- لم تكن لي علاقة بالجياد في الجيش ياهرهاوبمان([1]) . أعرف أنواع البترول المستخدمة في الدبابات. إذا كان هذا يهم سيادتك، فإني أستطيع قوله:
- أي نوع من الدبابات كنت تقود؟
- ب 27 وب 28 وب 29.
- وهل كانت هذه أفضل الدبابات؟
- لا، إنها أكثرها سوءاً.
ابتسم:
- إذن ما هو أحسنها؟
- ت 34، لكني لم أدخلها، وإنما رأيتها من بعيد.
انتهى حديثنا. هناك ضابط آخر لا أعرفه. يقف على قدميه بجوار شولتس وبوخ. كل واحد الآن مشغول بعمله. ولا أحد ينظر إليّ. كنت أنتظر عسى أن يسأل يوزباشي بوخ أسئلة أخرى. لكنه كان يصمت. وبعد قليل قال لي، وهو ينهض على قدميه:
- نحن ذاهبون إلى الجبهة، وستأتي وحدة جديدة إلى المعكسر.
عجبت لأنهم يقولون لي أنا، هذا. لكني لم أتكلم. أما هو فقد استمر. قائلاً:
- وأنت. ينبغي أن تعود إلى هناك. إلى المعسكر.
وسار نحو الباب، لكنه، وقف قبل أن يدلف إلى الممر، واستغرق في التفكير ثم قال:
- أنا لا أريد لك أن ترجع إلى المعسكر، وسأرسلك إلى القيادة العامة. وهناك ربما تحصل على ترخيص، وتسترد حريتك.
وخرج من الغرفة، ولم أر اليوزباشي بوخ بعد ذلك مرة أخرى. تركني في حيرة وطوال اليوم وأنا أفكر: إلى أين سأذهب، وكيف سأتحرر؟ وقبيل المساء، قال لي الجاويش شولتس إنه هو الآخر قد عُيِّن في إحدى الفرق الموجودة في الجبهة. سألته عن سبب سؤال اليوزباشي بوخ واهتمامه بالعلف الذي يقدم للجياد في الجيش الأحمر فهز كتفيه، واكتفى بقوله:
- ربما لأنه هو شخصياً من فرقة مدفعية الجياد.
وكانت هذه المحادثة هي آخر عهدي بالجاويش شولتس، وفي صباح اليوم الواحد والثلاثين من عام 1942، في ساعة مبكرة جداً منه، خرجت من أبوب معكسر الأسرى رقم (2) في أومان، وفي ذراعي صُرَّة صغيرة، وبجواري جندي ألماني شاب، مسلح.
نسير عبر طريق يؤدي إلى المدينة، وهو طريق موحل محدب، كانت الشمس في لون الدم ترتفع من خلف كنيسة فيها برج حرس دقيق جداً وكان في أعلاه إبرة، أسمع أصوات حيوانات في الحدائق، نوافذ المنازل تفتح، رجل في طريقه إلى عمله، وأحياناً يمر قروي شارد الذهن، بجوارنا، في عربته، الشمس ترتفع، وكلما ابيضَّ لونها، يترك سكون الصباح مكانه للحياة المليئة بالضوضاء، الحياة أيضاً نفس الإنسان، كل ما هنالك أن جندياً مسلحاً يسير بجواري، ولولا وجوده، لأخذت دوري أنا أيضاً في الحياة أختلط بالناس وأصبح واحداً من هؤلاء الناس.
قال لي اليوزباشي بوخ: ربما يطلقون سراحي.. ربما.. بيد أن تصديق هذا صعب ولكن من يدري؟ ربما.
قبل ثمانية أشهر عندما كنا ذاهبين إلى معسكر أومان مسوقين في هذا الطريق طمعت في المدد من تلك الأكوام الأرضية. ما أعجب هذا! لقد فقدت الأومباشي مصطفى عليه رحمة الله في هذا الطريق. لا أذكر كيف فقدت مصطفى؟ كم كانت تلك الأيام رهيبة، إني حتى الآن أتطلع إلى الأكوام الأرضية هذه فتتولاني الرعشة، ماذا لو عاد الألماني الذي معي فجأة من حيث أتى ليسلمني إلى المعتقل!
الألماني لا يتكلم. وأنا بدوري أتقدم وأنا بجواره، بهدوء. لا أدري إلى أين نذهب. كل ما أعيه أننا نبتعد عن أكوام الأرض وعن المعتقل. قال لي اليوزباشي بوخ:
ربما يطلقون سراحك، وكأني أريد الآن قياس الفرق بين الحرية والأسر، فأنظر إلى الحدائق الشديدة الخضرة، وإلى النساء أمام البيوت، وإلى الأطفال يجرون في الشوارع.
كنت أرى أن أتكلم، وأنهي حالة الأسر. ولكن لن أطيل الكلام، نطلق نحن أهل القرم على الذين يطيلون الحديث ويستطردون فيه ويمطونه، إنهم يأتون بالماء من ألف جدول ماء. فكرت أن ذلك يمكن أن يقال عني عند قراءة هذه السطور. عندما كنت طفلاً، كنت أريد أن أصبح شاعراً، حتى إني كتبت الشعر في دفاتر زملائي في الفصل الدراسي، لفّني شعور ورغبة في أحد الأيام أن أصبح روائياً. وكان ذلك بعد قراءتي لرواية هزتني كثيراً. كنت سأكتب حكاية بعنوان ((القاتل الأبيض)) وجدت العنوان. وحول هذا العنوان أرسلت خيالي أسبوعين كاملين. كم كنت أفكر بعمق. كم كنت أفكر بسعة! فكرت كثيراً ولكن ما العمل. ليس في تفكيري شيء، ولم أستطع كتابة شيء إلا عنوان الرواية.
والآن، عندما أقترب نحو حدود حريتي، وكلما أطلت قصة ((المذكرات)) أريد أن أطيلها أكثر. هل ما زالت الرغبة في الكتابة كامنة في ذهني؟ أعرف أن النفس تتضايق من الكلام الطويل، ولكن ما الضرر في ذلك؟ إن هذه القصة خاصة بي شخصياً، وهي بنفس القدر أيضاً تخص من أحب.
ندخل المحطة، في المحطة جمع غفير من الجنود الذين ينتظرون إرسالهم إلى الحرب. قطار مملوء يستعد للتحرك. تتدلى رؤوس أغلبها شقراء إلى خارج النوافذ. عند المرور من جوارهم أشار واحد عليّ، بأصبعه، إنه غالباً يتحدث عن البذلة التي كنت أرتديها.
وبينما أركب القطار. أنظر نظرة أخيرة إلى الأكوام الأرضية. وإلى المعسكر المعتقل وإلى أبراج الحراسة، وإلى أسقف السقائف. ها هي ذي أفظع بانوراما في حياتي! وفي لحظة برز إحساس بكل الطرق التي سرت فيها. وبالناس الذين عرفتهم وفقدتهم وبكل ما قاسيته. وبصوت أسير مسكين يصيح ويئن تحت عصا الألماني. هذه النظرة كانت هي النظرة الأخيرة. وهذه الستارة هي آخر ستائر حياة الأسر التي عشتها. وربما آخر ستارة للحياة التي عشتها حتى تلك اللحظة، ثم، بقيت خلف ستارتين أو ثلاث وخرجت خبيراً بالدور الذي يمكن أن ألعبه في الحياة الجديدة التي بدأت أعيشها.
وعندما أفكر، الآن، في كل هذا الذي مضى، أقول لنفسي: ترى هل كان هذا حلماً؟ لا، لم يكن حلماً، كان كله حقيقة، وأشعر بالأسى لأنني لم أستطع كتابة هذه الحقيقة بأسلوب راق.
ذهب بي الجندي الألماني الشاب، إلى ديوان نصف مظلم في نهاية القطار. وكان هذا الديوان خالياً. نوافذه مغلقة بالخشب، والخشب قد ضربت فيه المسامير وليس فيه فتحة ولو صغيرة يمكن النظر منها إلى الخارج. تعجبت، ولكن هذا كان أمراً بسيطاً، فمنذ متى وأنا أعيش في الظلام قبل هذا، ماذا سيحدث في رحلة ساعة أو ساعتين في ديوان، في قطار مظلم، ولم يكن هذا المكان بأسوأ من السقيفة (5)، أليس كذلك؟ وأخيراً تحرّكنا. وتحت الضوء الضعيف في مصباح كهربائي فوق رأسينا، جلسنا أنا والألماني جنباً إلى جنب. لم نكن نتكلم. ولم يكن في ذهن الألماني، ولا في ذهني ذلك الموضوع الذي يجعلنا نتكلم فيه. أفكر بالماضي أكثر مما أفكر في المستقبل، لم أكن أستطيع أن أنسى الآذري. وكل الطريق التي مررت بها، تأتي أمام عيني، وفي نهاية كل الطرق كان الآذري بوجهه الدامي يتراءى لي، ألم أتسبب أنا في موته؟ كنت أقول: لا. لكن خروجي من الغرفة، عندما كانوا يسحبونه بالحبال المربوطة برسغيه، عندما كانوا يسحبونه إلى الحلقة الحديدية.. خروجي هذا، ألا يعطيني الإحساس بالذنب؟ كان الألم يعتصرني في ذلك الوقت، لا أستطيع إبعاد هذه اللوحة من أمام عيني.
نزلنا من القطار في منتصف الليل. المكان معتم والمطر يهطل. ابتعدنا عن القطار. الألماني الشاب بجواري. يبدو أننا في سهل. لماذا نزلنا من القطار هنا. أين المحطة؟ ضوء خافت يظهر من بعيد. الرياح تأخذ المطر لتدفعه إلى وجهي وأذني. خرجنا إلى الطريق الإسفلتي وتقدمنا نحو الضوء الظاهر. لاحظت وجود بيت صغير على الجانب الأيمن وعربة نقل كانت تقف بجوار البيت. اقتربنا من سيارة النقل هذه، رأيت في الظلام شكل رجلين. أشعل واحد منهما مصباحاً كهربائياً فجأةً. تقدم الألماني الشاب الذي بجواري نحو الضوء بسرعة. وألقى تحية عسكرية قوية، وقال شيئاً، ثم سلمني لهذين الرجلين ثم عاد إلى القطار.
اللذان تسلماني، جنديان.. كلاهما يحمل رتبة جاويش. كانا طويلي القامة سليمي البنية. كل منهما يرتدي جاكتة مبتلة بالمطر، جلدها لامع. قابلاني وكأنهما صديقان قديمان. أعطاني أحدهما سيجارة، وأشعل الآخر لي قداحة. وركبنا سيارة النقل سريعاً. أريد أن أعرف إلى أين سنذهب وأسأل إلاَّ أن الشجاعة لن تواتنِ. ذلك لأن هذين الجاويشين لم يبديا أي اهتماماً بي. وصلنا إلى المكان الذي سنصل إليه بعد منتصف الليل، وتوقف المطر. وفي ضوء القمر الذي يتحرك بين السحب المرتفعة رأيت بناء كبيراً أبيض اللون، في وسط أشجار السنط. والشيء الذي لا يمكن أن أنساه أن أومباشياً ألمانياً كان ينتظر سيارة النقل، على درجات سلم البناء وعند نزولي من هذه السيارة أسرع وصافحني شاداً على يدي بحرارة، وأظهر لي احتراماً وأدباً ملحوظين.
تحدث معي بلغة روسية عذبة تتحدثها الطبقة الروسية الراقية. وقال:
- إنها لعادة، أن نستقبل ضيوفنا هنا، ليلاً.
واعتذر لي. نعم لي. اعتذر عن التقصير الذي يبديه في استقبالي. لم أصدق أذني، وأخذت أشك في هذا الأومباشي وكأني فلاح ساذج فقير يتعجب ويقول لنفسه أي عيب يمكن أن يكون في بضاعة رخيصة رخص التراب بل أقل منه قليلاً؟ وبعد المطر كان في الجو طراوة ذات رائحة طيبة. وكان الأومباشي يتحدث بنفس الصوت وبنفس الأدب. سرنا معاً نحو منزل صغير ملاصق لمبنى أصفر. غرفة صغيرة، نظيفة، دافئة، في وسطها مقعد وثير مغطى بالجلد، ومنضدة، في الجانب الأيمن باب.. أشار إليَّ الأومباشي بالجلوس على المقعد وغاب هو خلف الباب الذي في الجانب الأيمن. خفت قليلاً من الأدب، والاحترام اللذين لاقيتهما. وكان لدي إحساس بعدم الراحة. جدران الغرفة وكل أثاثها ينظر إليَّ، وكأنها تراقب كل حركاتي وسكناتي، وكأنّ كل شيء في الغرفة له عيون وآذان لابد أن هذه هي القيادة العامة. تُرى هل يرخصون لي بانتهاء الأسر؟ هل سيسلمون إليَّ الترخيص غداً صباحاً؟.. ربما.
عاد الأومباشي الذي يتحدث الروسية وفي يده ملابس نوم نظيفة وبشكير أبيض كبير. وقال:
- الحمام جاهز يا سيدي. وسأعد لكم الشاي أثناء وجود سيادتك في الحمام. وأرجو المعذرة، لكن غداً سيكون كل شيء على ما يرام. بعد إذن سيادتك.
فتح أحد الأبواب الموجودة في الممر الطويل، وأشار إلى غرفة الحمام، وبعد الحمام شربنا الشاي معاً في حجرة صغيرة. لم أكن أتحدث. عن ماذا أتحدث؟بأبيأيأأي كان هذا الرجل ينظر إلى وجهي وكأنه صديق، بنظرات لا معنى لها. لكن البراءة ظاهرة فيها سألته لكي أفتح موضوعاً للكلام، أثناء تناولنا الشاي، فقلت له:
- هل سيادتك روسي؟
قال:
- لا. أنا ألماني.
وابتسم. ابتسم كأنه يخفي شيئاً عني.
- أنا ألماني. ولكن هنا كثيراً من الأصدقاء الروس مثل سيادتك، غداً تتعارفون وتتصادقون.
ثم قال:
- ستسر سيادتك بالإقامة هنا. نستيقظ في الثامنة، نتبع شيئاً من النظام العسكري ولكن لا تنزعج. على كل حال إني أجد سيادتك الآن متعباً. استرح سيادتك وسيستقبلكم القائد في الساعة العاشرة.
نهض وفتح الباب الموجود على الجانب الأيمن. خرجنا. سرنا عبر ممر طويل. ثم فتح باباً آخر. ودخلنا حجرة على امتداده. مصباح كهربائي متقد، أحمر، ذو ضوء ضعيف، على الباب، وفي الداخل حوالي ثمانية أسرة أو عشرة، أخاف بلا سبب ظاهر. لماذا؟ لا أدري. كنت أتذكر وبشوق، سرير التبن الذي كنت أنام عليه في أومان، والرومانيين الذين كانوا يشربون الدخان. من هذا الرجل المغفل الذي معي؟ لماذا يبدي كل هذا الاحترام لأسير مثلي؟ أين أنا؟
أشار الرجل إلى سرير فارغ. قال شيئاً بصوت خفيض، لكني لم أعره انتباهاً. تركني بمفردي، أخيراً. وفي الضوء الكهربائي الضعيف الذي فوق الباب نظرت إلى النائمين على الأسرة. الغرفة صامتة، صمت يخيف الإنسان. وأخيراً، قررت أن أدع كل مخاوفي وشكوكي، إلى اليوم التالي. فلكل ليل نهار. ولا بد أن كل شيء سيتضح صباحاً. من يعلم؟ لعل القائد يسلمني غداً بعد التحدث إليه، الترخيص في يدي، ليطلق سراحي على الفور!!
مددت جسمي على السرير الأبيض النظيف، الطري، وأغلقت عيني. تداخل في رأسي كل من الأومباشي الرقيق، وأومان، والجاويش شولتس، واليوزباشي بوخ، والآذري. تداخل بعضهم في بعض، ونمت.
يرى الإنسان في نومه أحلاماً مزعجة، فيستيقظ عرقان، ينهض هارباً من السرير ويعيش في خوف غريب حتى يطمئن إلى أن ما رآه، إنما هو حلم فعلاً. إني أعلم مثل هذه المخاوف. إنها كانت مخاوف طبيعية أما خوفي في ذلك الصباح، فكان بالنسبة لي خوفاً مختلفاً تماماً، خوفاً مستمراً يأخذ عقلي من رأسي، كان هو الخوف الحقيقي. لا أعرف مَنْ حولي، ولا أين أنا. كان هذا كابوساً احترت فيه، مرَّ بي وأنا بين الحياة والموت، استيقظت ولم أستطع التخلص منه.
في تلك الليلة نمت في السرير النظيف نوماً مريحاً. وكان عقلي نشطاً عندما استيقظت. كنت أفكر في الأمس. لكن كان في الغرفة حركة. التفتُّ يمنة ويسرة و... تجمدت فجأة. إن الذين يتحدثون بين الأسرة وهم يقهقهون. هؤلاء الذين يتمازحون كانوا روساً. كانوا جنوداً من الروس يحملون في وسط بزاتهم العسكرية الرسمية، مسدسات، نعم، عساكر روس! ضباط روس! هل ما أراه حلم. أغلقت عينيَّ وفتحتهما. لم أكن أستطيع تمالك نفسي. ضابط بملابس بكباشي جلس على حافة سريره يتكلم مع الملازم. وعلى صدر الملازم ميداليات لينين، والعلم الأحمر والنجمة الحمراء. كنت أفكر. لكني لم أعد أتمالك نفسي بوسيلة أو بأخرى.. أين أنا.. ماذا فعلت بالأمس؟ أين نزلت من القطار؟ هل كان الأومباشي الذي تحدث معي بالأمس روسياً!! كلّت عيناي ولم أستطع النظر إلى الضباط ذوي الملابس الرسمية البراقة من حولي. وفجأة، رأيت بين جمع من الضباط الأومباشي المهذب الذي كان معي بالأمس. تقدم نحوي وكنت كمن يستجمع نفسه، أرتدي ملابس النوم المعروفة. يعني هذا أن ما أراه ليس حلماً. لكن لماذا يرتدي هؤلاء الناس، الملابس الرسمية الروسية! بعد قليل فهمت المسألة.
نظر الأومباشي – وهو بجواري- إلى ساعته، وقال ضاحكاً:
- أظن أن سيادتك قد تناولت قسطاً من النوم. الساعة الآن العاشرة. وسيكون القائد في انتظار سيادتك في الحادية عشرة. وإذا أحببتم فتفضلوا بتناول الإفطار.
قال هذا، وخرج، إن مجيء هذا الرجل وتحدثه معي، مع غموضه هذا، يعطي إحساساً بالحياة، في نفسي، قمت وارتديت ملابسي سريعاً، وخرجت وفي الخارج: الضباط الروس من مختلف الرتب، يتجولون في الحديقة، تحت أشجار السنط، يداً بيد، وذراعاً بذراع. وفي سقيفة في طرف المكان، كان ((يوزباشي)) يرتدي بذلة رسمية ألمانية، يلقي دروساً على ضباط روس، أمامه. عند مروري بجانب السقيفة توقفت، وأَعطيت أُذني لما يقوله اليوزباشي. كان الرجل يتكلم باللغة الروسية. لم يعد لدي إذن أدنى شك في أن هذا المكان عبارة عن مدرسة جاسوسية، وأنني موجود بين جواسيس يعملون ضد السوفييت. وبعد ساعة أخذني الأومابشي إلى غرفة القائد. وكانت حجرة مؤثثة بأثاث غال. قابلني القائد وهو يوزباشي وبجانبه روسي أشقر عريض المنكبين طويل القامة يرتدي ملابس بكباشي روسي. استقبلاني بوجه باسم ورقِّة حاشية، صافحاني، وأشارا عليَّ بالجلوس على مقعد وثير بجانب المنضدة، وسريعاً، اختفت الرقة التي كانت في وجه الألماني، وسريعاً أصبح هادئاً ولا يرتسم على وجهه أي تعبير. بدأ الروسي وفي يده قلم، وأمامه دفتر، وعلى وجهه ابتسامة مصطنعة، بدأ في التحقيق:
- اسم سيادتك؟
- صادق.
- لقبكم؟
- طوران.
- الرتبة؟
- ملازم.
- الوحدة؟
- دبابات.
- رقم الجيش واللواء والكتيبة؟
- الجيش السادس، اللواء السابع والخمسون، الكتيبة الرابعة والتسعون.
ترك القلم والدفتر، ونظر إلى عيني، ودائماً بنفس الابتسامة الزائفة:
- أولاً، تفضل سيادتك واختر لك اسماً.
ها هي ذي نقطة فاصلة أخرى في حياتي. هذا الرجل يريد مني بوضوح أن أعمل جاسوساً. وكنت بدوري سأتحدث معه بصراحة، لم أكن خائفاً. لم أكن مثلما كانوا يظنون بي. أنا رجل مختلف عن الرجال الذين حولي. بسيط، لكني جسور. أحسست بهذا في داخلي عندما كنت أنظر إلى الروسي الذي يجلس أمامي. أنظر إلى عينيه الثعلبيتين. فهمت هذا أول مرة هنا. كنت سأنطلق وأصيح وأنا أضرب المائدة بقبضة يدي، وأنا أقول: ((لا)) وألف مرة لا! لمصلحة من تريدون دفعي إلى النار؟ أنا لست منكم أنا.. أنتمي لأمتي أنا.
كان البكباشي ينظر إلى وجهي وكأنه يقرأ ما يدور بخلدي. كان الروسي يقول أي:
- أي اسم تختاره؟ وكيفما كان: إيفانوف، بتروف، فيدوروف، اختر سيادتك اسماً لنفسك أولاً..
أدور في المقعد أُجيبُ جواباً، لكني لم أكن جباناً ولا أبكم. قبل كل شيء، استطعت أن أسيطر على الحدة التي في نفسي. سألني البكباشي قائلاً:
- هل عثرت على اسم، أيها الملازم؟
أقول من المكان الذي أجلس فيه:
- لا. إن اسمي صادق طوران، أنا رجل أفتخر باسمي.
يبدو أن الإجابة لم تكن مأمولة ولا متوقعة . نظر البكباشي إلى اليوزباشي. نظر الروسي إلى الألماني ثم نظر اليوزباشي إلى البكباشي، ثم نظر كلاهما فجأة نحوي وبدأ البكباشي الروسي الكلام.
- حسناً جداً، إذن ماذا تريد أن تعمل وكيف ستعيش؟
- كما عشت حتى الآن.
- يعني أتعود إلى البلشفين وتحارب ضد ألمانيا؟
- أنا لم آت هنا من بين البلاشفة وإنما من معسكر الأسرى في أومان، المعسكر رقم (2) وأريد العودة إلى هذا المعتقل مرة أخرى.
ساد الغرفة سكون عميق. ليس هناك أي تغيير على وجه البكباشي حتى الآن، لكنه يبدو أنه يمكن أن يكون مخيفاً بنفس القدر الذي يمكن أن يكون رقيقاً. أما أنا، فلم أكن أهتم، لم يكن الذي يسيطر عليَّ هو عقلي، وإنما إحساسي. وكنت سأقول كل ما أريد قوله.
- أرسلوني، أرجوكم، إلى المعتقل، مرة أخرى.
- انحنى البكباشي على أُذن اليوزباشي وهو يقول شيئاً، ثم التفت إليَّ، وقال:
- اسمع يا ملازم، لا يمكن لأحد هنا أن يذهب إلى حيث يريد. وليس لأحد أن يعمل ما يرغب في عمله، لا تنس هذا، إن أصل ما أريد قوله لك، لشيء آخر، أنا لست ألمانياً. كما أنني لا أعمل لمنفعة ألمانيا فقط. كل الذين رأيتهم هنا، مثلي.. ونحن أيضاً لنا وطننا ولسنا سيئين، كما تظن بنا. إن حكومة ألمانيا ستعطيك مقابل أعمال بسيطة تقوم بها، مالاً كثيراً. واعلم أننا نرسلك إلى البلشفين، سنعيدك بعد شهر أو شهرين إلى هنا. مرة أخرى في ذلك الوقت، ستعيش بهذه النقود كما ترغب، وفي أي مكان من ألمانيا تحبه.
قلت مقاطعاً كلام البكباشي الروسي:
- إذا استخدمت الحكومة الألمانية هذا المال، في مكان آخر، فسيكون أكثر نفعاً.
نهض البكباشي فجأةً واقفاً على قدميه، وقال وهو يضرب المنضدة بيده، صائحاً:
- بلشفي، بلشفي أحمر! إننا نعلم كيف نتحدث مع أمثالك.
كنت أعلم أن الأمر سيصل إلى هذا الحد. لكني كنت أتوقع هذا من الألماني أكثر مما أتوقعه من الروسي. فأجبت من حيث أجلس وبنفس الصوت:
- لست بلشفياً، إني أشمئز من البلاشفة، لكني لست مجبراً على العمل في سبيل منافعكم.
ضحك ضحكة خبيثة وقال:
- لا! أنت مجبر بالفعل، مجبر لإنقاذ حياتك. هل تعرف أن هذه الحياة تكلف كثيراً.
- ومن قال أني أريد إنقاذ حياتي.
- بالطبع، إن قيمة الساق الخامسة في جسم كلب، تعادل قيمة الروح في إنسان يعيش في الأمن والسلامة.
وفجأة ارتفع صوته وقال:
- لكن إذا وقعت الروح في خطر، فإن المسألة تختلف كلية.
سألته وأنا أقف في مواجهته كالحجر:
- ماذا تريد أن تقول؟
لوى طرف شفتيه بضحكة قبيحة، وومضت لمعة من عينيه الخضراوين وعاد يتحدث بصوت هادئ:
- ألم تفهم بعد أيها الملازم؟ إني أثق وأؤمن بقول: ((بقدر ما تدخل الغابة بقدر ما تجد من حطب)) .. تعال ولنتحدث قليلاً. لنتحدث بتفصيل أكثر. أنا واثق أننا سنصبح صديقين. أنا لست خائناً ولست إنساناً سيئاً كما تظن.
أخرج من جيبه علبة سجائر. وقال:
- ليدخن كل منا سيجارته من هذه العلبة، هل تعرف اسم هذه السجائر؟ أقول لك أنا: اسمها: قاي بك. منذ متى ولم تدخن القاي بك يا ملازم؟
وكان هذا أيضاً سؤالاً. فقلت له باختصار:
- لم أدخنها قط.
- يعني ألم تدخنها قبل الحرب، في روسيا، أو بتعبير الحمر، روسيا السوفييتية؟
- لا.
- لماذا؟
- لأن ميزانيتي لا تسمح بذلك.
ضحك وقال:
- بعد ذلك يا ملازم ستدخن السيجارة التي تحبها وستشرب الشراب الذي ترغبه ومن يدري أيضاً، ربما ستلهو أيضاً مع المرأة التي يرغبها قلبك.
- كل هذا سيكلف ألمانيا كثيراً.
- أنت ترفض حياة هائنة.
- نعم.
- تريد العودة إلى المعتقل والقمل والعذاب والاضطراب.
- نعم.
- عصا الشرطة وخمسون جراماً من الخبز المليء بالتبن والحصى والزلط. لن تستطيع التحمل يا ملازم. لن تستطيع التحمل.
- هذه مسألة خاصة بي. أريد أن ترسلوني مرة أخرى إلى المعسكر.
- اطلب ما تريد. لكننا سنطلب حقنا منك.
صمت. وقال بعد قليل:
- ليس في هذا إجبار أيها الملازم. ربما نعيدك كما ترغب إلى المعتقل.. إلى المعسكر.. ولكن..
- ولكن ماذا؟
- عليك أولاً أن تدفع الدين الذي عليك.
لم أنبس بأي صوت عقب هذا، فكرت أنه يسخر بي. نهض البكباشي بهدوء من على مقعده، ونظر بضع ثوان إلى السقف، ثم ركّز عينيه على عينيّ. وقال:
- لم تسألني أي دين هذا؟
فهززت كتفي.
([1]) اليوزباشي
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha