مصطفى المسكين: كم كان يسره سرورنا. يفرح ويسعد مثلما يفرح الأطفال ويسعدون إذا وجدَنا شبعانين وسعداء.
لم تستمر - للأسف- هذه الحياة طويلاً. فذات مساء، عاد مصطفى مهموماً. لا يتحدث مع أحد. أخذ رأسه بين كفيه وراح يفكر. لكنه قال فجأة:
- أنا لا أخشى الأسر ولا الجوع ولا الموت.
طار النوم من عيني في تلك الليلة. فكرت في مصطفى كثيراً. كان هناك شيء يهمه ويقلقه. اصفر وجهه وأصبح كالمريض؟ كان هناك شيء يحدث، لكن.. ما هو؟
علمنا في اليوم التالي، أن الألماني الذي كان يعمل مصطفى معه، قد ذهب إلى الجبهة. الموقف يسوء من يوم إلى يوم. منذ أسبوع ونحن جياع لم نأكل شيئاً. يموت كل يوم في الميدان، أكثر من مائة أسير، يموتون من الجوع والعطش والمرض. كان بيننا أسرى ضعفاء ومرضى. مرضى للدرجة التي لم نكن ندري أنهم يرقدون موتى بجوارنا. الجوع يمحو جسمي يؤثر في نخاعي ويرتفع إلى مخي. يتراءى لي الخبز، شريحة من رغيف القرية. ويظل هكذا ساعات لا تبرح صورتها رؤياي. يحدث أحياناً كأني أرى الخبز بين كفيّ، فأجد نفسي أود أن أقرب يدي من فمي وأعضها. أعلنوا ذات صباح أنهم سيفرقون أكلاً على الأسرى. ذهبنا زحفاً إلى الأبواب قالوا بالميكرفونات في نواحي الميدان الأربعة:
- انتبهوا - انتبهوا - إذا سادت الفوضى أثناء توزيع الطعام فستنطلق النيران من الأبراج.
ومع ذلك لم يوزعوا علينا شيئاً إنما عزفوا في ذلك اليوم وحتى المساء موسيقى الجاز والفوكسترول والتانجو.
أعلنوا في اليوم التالي - مرة أخرى- أنهم سيعطوننا طعاما. ومرة أخرى استمعنا إلى الموسيقى من الميكروفونات، ببطون جائعة، طوال اليوم لكنهم في اليوم الثالث أرسلوا لنا الشرطة الأوكرانيين فنادوا بنا إلى نوبة الأكل، أعطوا كل أسير خمسين جراماً من الخبز ونصف لتر، حساء. انتظمنا في صف وأخذنا ننتظر الدور، الأسرى الذين يخرجون من المطبخ يتجهون نحو الحائط، وكثير منهم اتجه إلى جانب الجدار من فرط خوفهم، على خبزهم، أداروا ظهورهم لإخوانهم وأخذوا يأكلون خلسة وفي سرية. كنت أراقب كل هذا بدقة. كان أكثر الأسرى يشربون حساءهم في علب صغيرة من الصفيح الفارغ الذي كان أصلاً علباً لحفظ المأكولات. أما الذين لم يكن معهم مثل هذه العلب فقد كانوا يأخذون حساءهم في قبعاتهم، يشربون وعندما ينتهون يظلون مدة طويلة يديرون قبعاتهم على أفواههم، أما المرضى والمرهقون لدرجة عدم قدرتهم على الوقوف في الصف على أقدامهم فقد كانوا ينظرون بصمت إلى هؤلاء الذين يشربون الحساء. ينظرون إليهم بأفواه فاغرة وعيون متسعة. ولم أستطع أنا الحصول على خبزي إلا في منتصف الليل. كان لون الحساء أخضر وكان بالخبز من الحصى والتبن واللَّبن ما يجعل له شكلاً خاصّاً، لكنه كان ألذ من كل خبز أكلته في حياتي حتى ذلك اليوم.
لم يعد الأومباشي مصطفى منطلقاً مثلما كان. مقاومتي للجوع ملحوظة فقد كنت أكثر من يتحمله. يرقد بجوار الحائط وينام عدة ساعات. وعندما يستيقظ تثبت عيناه على نقطة ويظل كذلك. لم أعد أرى وجهه الذي كان قبل أسبوعين، نضراً مليئاً بالصحة. لقد أصبح مصطفى في حالة يأس لا نهاية لها.
مهما حاول مصطفى إخفاء هذا إلا أننا كنا ندركه ونفهمه. إن غرق إنسان سليم وسعيد، في التفكير، وفي اليأس، يتضح بسرعة، من شأن الاضطراب أن يطفئ سريعاً إنساناً سليماً. وكان مصطفى ينطفئ سريعاً أمام عينيّ. ورغم ضعفي وقلة حيلتي فإن شيئاً ما بداخلي كان يدفعني أمام أصدقائي، صوت في داخلي كان يقول لي أسرع لمساعدتهم، وقبيل مساء، اتخذت قراري، ذهبت إلى الأبواب في منتصف الليل دون أن أُشعر أحداً بذلك. تجمع جمع كبير بجانب الأبواب قبيل الصباح، وخلفي، خلف الأسلاك الشائكة، آلاف الأسرى جياع، مسعورون، مستعدون ليقاتل بعضهم بعضاً. كنت أفكر في إخوانهم الذين أسلموا أرواحهم مضرجين في دمائهم منذ أسبوعين. لكن كنت اتخذت قراري: أن أخرج من المعسكر لأحضر الخبز لأصدقائي. سأنجح بمفردي في العمل الذي لا يفلح في تحقيقه مائة شخص. سأكسب ذلك الخبز وأطعم به مصطفى وعثمان وجودت وخليل.
يدق قلبي بشدة عندما اقترب منا ديدبان مسلح ببندقية، خلف الأبواب ذات العيدان الحديدية، يخيل إليّ أنه سيقتلني عندما ينزل البندقية من على كتفه. لا يخرج صوتاً. يأتي ويذهب أمام الأبواب خطوة خطوة وكأنه يعد خطواته. يصبح الصباح. الازدحام خلفي يزداد تداخلاً. ثمانية أسرى وعشرة هم الذين بيني وبين الأبواب التي أمامي. يدفعونني أكثر وأكثر. تبدأ الشتائم والصياح والأنين بين الأسرى الذين ورائي، لكني كنت اتخذت قراري. لا أخاف. سأحضر هذا المساء خبزاً إلى المعسكر. وعندما يسألني مصطفى ((أين كنت؟)) ، سأخرج الخبز من حضني وأضعه بجانبه. ماذا لو أطلق الألماني النار عليّ؟ يتجمع الجنود الألمان أمام الأبواب. فيهم غير مسلحين. السلاح هو أخوف ما أخافه. وجه السلاح جاف ورهيب. أتصور الجنود غير المسلحين: متحضرين، رحماء، قلوبهم طيبة. لماذا كلهم غير مسلح؟! يتقدم واحد منهم نحونا. طويل القامة. أشقر. يقف خلف ستارة الباب الحديدية أرى الآن وجهه جيداً. لا تبدو الرحمة عليه. لكن لا أدري لماذا أجده يضحك. حاجباه الغزيران الأصفران يغطيان عينيه اللتين هربتا إلى الحفرة. هذان الحاجبان مع جبهته الضيقة وشعره الجاف المنتصب كالفرشاة، كل هذا يشكل صورة لحيوان. يداه خلف ظهره يضحك وهو يبتسم لنا دائماً، يرفع نحونا عصاه الجلدية التي أخفاها وراءه، يهزها ويضحك. هل يضحك علينا إنسان يريد أن يضربنا؟ إنه يضحك. يمد الأسرى أيديهم.. يريدون سيجارة. لكنه لا يجيب. إنما يضحك كالقرد وهو يهز عصاه. كم من وقت مضى. ولم نرَ فيه إنساناً يضحك وهو ينظر إلينا. يموج الجمع المزدحم عندما يفتح الديدبان المسلح الباب رويداً رويداً، يتغير فجأة وجه الألماني الذي يضحك، يجف وجهه وهو ينظر إلينا ثم يندس بيننا من
فتحة الباب ويصيح قائلاً:
- إلى الوراء، أيها الخنازير! إلى الوراء!
أمن المعقول أن يفسد فجأة، إنسان طيب، هكذا؟! ، لم نستطع أن نفهم تغيره. لم نصدق هذا، فكان يصيح بوحشية ونحن نضحك، لم يكن الضحك رغبتنا إنما نضحك لأنه كان يضحك لنا. لكن في عينيه لمعان خائن ووحشي. يندس بيننا من فتحة الباب. يضرب على وجوهنا فقط، بل وعلى رؤوسنا. يصيح كالمجنون يركلنا بقدميه ويشتمنا. نحن لا نرجع إلى الوراء إلا في حالة واحدة وهي إطلاق الرصاص علينا. لكنه، الآن، وسطنا ونحن حواليه ننظر إليه، لم يعد الآن يشتم، يذهب ويجيء أمام الأسرى، يهز عصاه ويضحك، أقول في نفسي: ((هذا الديوث، ألم يجد لعبة أخرى غير ما هو عليه؟)) وبينما أنا هكذا، إذا به يقف في وسط المكان ويرمي سيجارته التي كان يدخنها، تحت أقدام الأسرى، فإذا بهم ينطلقون على الأرض كالحيوانات الكاسرة، يتصارعون بأصوات رهيبة وأنّات مفزعة، من أجل نصف سيجارة، وبينما الأسرى يتصارعون فيما بينهم، وهم على الأرض، إذا بالألماني يضرب مجموعة منهم بعصاه. ترى من فاز بالسيجارة؟ لا أدري، إلا أن جميع الأسرى صاحوا بعد أن نهضوا من على الأرض وهم يقولون:
- ارمِ، واحدة أخرى! ارمِ!.
لكن الألماني لم يلقِ سيجارة أخرى، بل أخذ جولة أخرى مارّاً من أمام الأسرى وفي الوسط رفع عصاه إلى الهواء وقال:
- من يريد أن يخرج للعمل؟
كنت أنا - تقريباً- الذي فهمت هذا السؤال قبل أي أحد آخر، فرفعت يدي قائلاً:
- أنا.
أشار إليّ بعصاه، ليستدعيني بجواره، خفت أن يضربني ((علقة)) لكنه لم يفعل شيئاً. لا أستطيع التعبير عن سروري عند خروجنا من الباب. لكن للأسف لم تستمر هذه الفرحة طويلا، وصلنا أمام مبنى قيادة ))الشتالاك)) وجدت ما لا يمكن نسيانه، كان كرسي خشبي فاخرٌ بجوار السلم الحجري، ذهب الألماني وجلس على هذا الكرسي وأنا واقف أمامه، أشعل سيجارة، وأشار إلى طوبتين بجوار الحائط وقال:
- ائت بالطوبتين إلى هنا!
أحضرت الطوبتين، وضعتهما على الأرض تحت أقدام الألماني، أمرني وهو يشتم أن أحمل الطوبتين في يدي، لم أفهم مراده، لماذا يصيح بي ويشتمني؟ لا أدري. كنت أريد العمل. العمل بكل ما بي من قوة. أكسب الخبز وأحضره إلى مصطفى. قال لي الألماني، بعد أن أمطرني بوابل من الشتائم:
- أمسك بالطوبتين وضعهما على رأسك.
أمسكت الطوب ووضعته فوق رأسي. الألماني يجلس على كرسيه يدخن سيجارته يأمرني بعصاه الجلدية وكأنه قائد أوركسترا:
- نزول على الأرض! قيام!
نزلت أرضاً ثم قمت، بناء على أوامره عدة مئات من المرات ورويداً رويداً. وقف كل شيء في حلقي. وصوت من داخلي يقول:
- اسحق هذا الحقير بالطوبتين اللتين في يديك.
لكني لا أستطيع عمل شيء. لماذا؟ أكنت أريد أن أعيش؟ رويداً. رويداً أدرت ظهري إلى الألماني لم ير بكائي وفرحت بهذا. نعم لا أدري كم مائة مرة هبطت على ركبتي ثم قمت واقفاً وأنا أحمل الطوبتين وأنا منقاد للعصا الجلدية. وبعد نصف ساعة قام الألماني من على كرسيه وتقدم نحوي وجعلني أرمي الطوبتين على الأرض وأعطاني سيجارة من سجائره وأخذني إلى الأبواب وساقني مباشرة إلى الميدان.
ولم أتحدث إلى أحد في ذلك اليوم. إلا أني طواله وأنا أفكر في الناس وفي الحياة وفي الموت.
لن أنسى طوال عمري، أنْ جاء مصطفى ذات مساء إلى جانب الجدار وهو منفعل. كان في عينيه بريق مختلف، بريق غريب، برك على الأرض، على ركبتيه، وبشكل هامس ولكن بصوت حاد قال:
- هيا، انهضوا فنحن ذاهبون.
سألناه جميعا وبنفس الصوت الهامس:
- إلى أين؟
كان يحدثنا وهو يضع ملابسه الداخلية في الحقيبة، عما سمعه من الشرطة الأوكرانيين.
- غدا صباحاً، سيأخذ الألمان من هذا الشتالاك حوالي خمسمائة أسير منا، ليسوقوهم إلى الخدمة في القرى القريبة من كيفورجراد.
وذهبنا في نفس المساء إلى جانب الأبواب، في انتظار الصباح.
لو رميت إبرةً أمام الأبواب قبيل منتصف الليل، ما سقطت على الأرض، وأريد تصديق كلام مصطفى، قد يكون فيه خلاصنا.. الجنود الألمان يتجمعون قرب الصباح وراء أبواب المعسكر، وكلهم مسلحون.
تتكاثف على التوالي كتلة البشر التي خلفنا، وعند ابيضاض الجو نرى في الميدان كل الأسرى الذي يستطيعون الوقوف على أقدامهم وقد تجمعوا كلهم أمام الأبواب. هناك شيء سيحدث، ولكن ما هو؟ هل سيذهبون بنا إلى القرى؟ ربما.. كل هؤلاء الجنود المسلحين لنقل خمسمائة أسير جائع نصف عريان.. الزحام الآن مسعور ويزداد سعيراً، وكان الخبر الذي قاله لنا مصطفى عند المساء قد انتشر. بعض الأسرى كان يصيح قائلاً:
- الألمان سيطلقون سراح الأسرى.
كل واحد منا يصدق هذا الخبر، يؤمن به، ويفرح له، بل حتى وجدنا بين الأسرى من يهتف بحياة ألمانيا. عينا مصطفى علينا. يقول لنا متوسلا:
- أمسكوا أيديكم بعضها ببعض ولا تتركوها حتى الخروج من الأبواب ماذا يحدث؟ هل سنذهب إلى القرى؟ ربما! المحاصيل تفسد في الغيطان. ولم يعد هناك أحد يشتغل في القرى. رأى الألمان أن يذهبوا بنا إلى القرى ليشغلونا هناك بدلاً من أن يغلقوا علينا المعسكرات ويقتلونا جوعاً. ترى ماذا يقول الأومباشي مصطفى؟ هيا لنخرج إلى القرى وفي أول فرصة تسنح. هيا إلى القرم! ولنتخلص من هذا الميدان فهذا وحده يكفي. تسري هذه الأنّات إلى داخل نفسي ولا أستطيع النظر إلى الدموع، فأنا إنسان متعود على الحرية. لقد نشأت تحت شمس القرم ولا أستطيع تحمل هذه الروائح. لنخرج إلى القرى أولاً، ثم وفي الظلام سأقتل هؤلاء الديوثين المسلحين وسأهرب وسأجعلكم تهربون أيها الكوسة! لا تخافوا!.. هكذا قال مصطفى.
وحدات جديدة تظهر خلف الأبواب، وكان الجنود في انتظار هجوم للعدو.. أوامر حادة وقاطعة، كلمات، سلاح، أصوات، استعداد الأسلحة استعداد على أشده، لا تبدو له نهاية، ماذا سيحدث، أرى جيداً من بين الأصابع الحديدية في الأبواب. الجنود على صفين. حائطان مشغولان بالجنود المسلحين على جانبي الطريق الذي خلف الأبواب. يخرج ضابط طويل القامة، نحيل الجسد، دقيق الملامح، ويتجه نحو الأبواب ومعه مترجم والمترجم يبدو تشيكيّاً أو بولونيّاً، يقول بلغة روسية قبيحة للغاية:
- كل خمسة من الأسرى سيأخذون رغيفاً واحداً، لن تأكلوا الخبز هنا. الأسير الذي يأكل الخبز هنا، يُضرب بالرصاص فوراً.
كرر هذا الكلام مرتين، ثم فتحت الأبواب، وكان في يد مصطفى خبز.
نجري خلف مصطفى ونحن ننظر إلى اليمين وإلى الشمال. الجنود على الجانبين ينظرون إلينا نظرات جافة، ننحرف إلى اليمين، نخرج إلى طريق إسفلتي نرى على الجانب الأيسر صفوفَ جنود مسلحة، وسيارات نقل ورشاشات في سيارات النقل. ولم أرَ جنوداً ألماناً بهذا الشكل في مكانٍ واحد، لم أرَ ذلك القدر من الجنود حتى في الجبهة. نتقدم يجري الجنود الألمان على يميننا وعلى يسارنا كأنهم كلاب حراسة. أنظر إلى الجنود القادمين من ورائنا. كم عددهم؟ لا أدري. لا أستطيع أن أرى نهاية للطابور على كل حال، لا بد أنهم أكثر من ألف.. ربما ألفان. أمضي بين ناس خرس، المنازل فارغة، جوانب المكان صامتة، وكأن الدنيا جميعها حبست أنفاسها وتستمع إلى أنّاتنا. نخرج من المدينة. مصطفى لا يتكلم قط. الاضطراب واضح على وجهه. يبدو أن أشياء سيئة للغاية تتولد في داخله. أريد أن أتحدث، لكن الألمان يصيحون دون توقف. يدفعوننا من خلفنا بقواعد بنادقهم. لن نجري هكذا، غالبا، وبنفس السرعة طوال اليوم!! يبدو أنهم يريدون إخراجنا فوراً من المدينة. قد يعطوننا عندما نخرج من المدينة فرصة للراحة قليلاً، إننا في أطراف المدينة ونواصل التقدم بنفس السرعة وأنا أمسك عثمان الشاب من يده، مصطفى بين خليل وأنور يسبقوننا. وجودت وراءنا. ألتفتُ بين الحين والحين إلى جودت وأنظر إليه. فيقول لي بصوته الحزين:
- لا تخف، يا ملازم، لن أتخلف، لا تخف!
نحن الآن في سهل. بعد أن كان الألمان يجرون من على يميننا وعن شمالنا، أخذوا يبتعدون عن صفوف الأسرى بحوالي مائة وربما مائة وخمسين متراً، وبابتعاد الجنود الألمان خرج من الصف بعض الأسرى الروس الذين يسيرون بجانبي. يجثون على ركبهم، وفي لحظة اقتسامهم الخبز إذا بـ.. طاك.. طراك! ثلاث طلقات.. أسيرٌ ينهار على الأرض، وقطعة خبزه بين ساقيه، وقبل أن أراه جيداً إذا بي أسمع أنة خرجت من صدر جودت في الخلف ويصرخ قائلاً:
- آه يا أمي..
لم يبرح هذا المنظر مرآي حتى الآن، أمسك مصطفى بجودت من وسطه. دم صديقه ينزف ويسيل من بين إصبعيه إلى أطراف حذائه، رأس جودت يتدلى إلى الخلف، ينظر دائماً إلى أعلى وكأنه ينتظر شيئاً من السماء، وجهه جميل، وجهه نوراني، وأنا أكتب هذه السطور أجد ركبتيَّ ترتعشان، ويهتز قلبي وتتجمع على جبهتي نقط من العرق البارد، وتحترق نفسي لهيباً. جودت بين ذراعي مصطفى. عثمان وخليل وأنور غطوا وجوههم بأيديهم يبكون مختنقين. يقبل مصطفى - وبلا توقف - عيني جودت، ويئن ويقول:
- آه يا أخي! آه يا أخي!
يمر الأسرى من على اليمين ومن على الشمال زاحفين قائمين واقعين. ولا أحد يلتفت إلينا ولا يتكلم معنا، وبعد قليل إذا بصوت بجوار مصطفى يقول:
- هيا يا صديقي: فالموتى لا يُبعثون الآن. أخرجه إلى حافة الطريق، اتركه وامش أنت!
تظهر في حدقتي عيني مصطفى لهب سوداء. ينطلق فوراً نحو الروسي الذي قال له هذا الكلام. أظن أنه سيخنق بيديه الداميتين ذلك الروسي ويمزقه إرباً إرباً. يدفع الروسي من صدره ويقول له:
- امش! اذهب إلى ما أنت فيه.
الروسي لا يذهب، ينظر بصداقة إلى وجه مصطفى الآخذ في التوحش.
- لا تتخلف كثيراً. إن الألمان يضربون سريعاً من يتخلف عن الطابور ومن يخرج من الصف.
- ومن أين تعرف؟
- خرج ثمانية عشر ألف أسير من معسكر كيفوجراد. ولم أرغب أنا في الخروج. لكن الألمان دخلوا الغرف وأخرجوا الأسرى السالمين عنوة. وعند التقدم داخل المدينة كنت أنا في أخريات الطابور. لم يقتلوا أحداً داخل المدينة. لكن عند الخروج منها قتلوا كل أسير تأخر عن الطابور ثلاث خطوات. وكم سقط من الموتى في الخلف! آه لو تعلم!
يبكي مصطفى. يشكّل جسد جودت، بين ذراعي مصطفى، كل وجود مصطفى، وكل حياته. يقبّل - دون توقّف - عيني جودت اللتين لا يراهما. يبدو أننا تخلفنا حتى أصبحنا في نهاية الطابور. أصوات البنادق تختلط بالآهات، وبعد قليل، الأسرى من يميننا ومن شمالنا يتصارعون، يسرعون، يجرون، وهم يقولون:
- أسرعوا، خلصوا أنفسكم، أيها الإخوة، أسرعوا بالنجاة.
وإنه لأمر صعب للغاية: تَرْكُ جسد جودت والذهاب، لكني أفهم رويداً رويداً أنه لا حيلة غير تركه. يصعب أن أقول هذا لمصطفى وللآخرين، يبدو أنني كنت أكثر زملائي خوفاً من الموت، ورغم هذا، فإني أقسم في داخلي أني أنا أيضاً لن أترك جسد جودت حتى يتركوه هم. وأخيراً، قام الأومباشي مصطفى بنقل جسد جودت إلى حافة الطريق. أرقده على العشب الأخضر، وجثا على ركبتيه بالقرب من رأسه.
إننا في نهاية الطابور، نرى سيارات النقل وفوهات المدافع الرشاشة وقد اتجهت إلى الأسرى المسوقين، وفجأة يبدأ سيل من طلقات الرصاص. يداي ترتعشان وركبتاي كذلك. أسمع قهقهات الألمان. يتقدم ثلاثة من الأسرى يترنحون وكأنهم سكارى بين سيارات النقل الألمانية: طاق. طاق.. طلقتان فقط ويقع أسيران في منتصف الطريق. أنظر إلى أصدقائي. يا ربي! ما هذا الاضطراب؟ نخرج من الصف. دوم! صوت بندقية أخرى. الآن، وفي وسط الطريق، وعلى بعد خمسة عشرة خطوة من هذين الأسيرين الراقدين أرضا: أسير ثالث يقع منكفئاً على وجهه أرضاً يتجندل في دمائه. نتبادل النظرات أصوات طلقات من البنادق مرة أخرى. والرصاص يمر أزيزه أسفل أذني. في هذا الوقت يأخذ مصطفى رأسه بين كفيه ويقول:
- عفوك إلهي! عفوك إلهي.
ثم يقوم على قدميه ويختفي بين زحام الأسرى. ونحن بدورنا نترك جسد جودت مسجى على حافة الطريق ونجري في أعقاب مصطفى.
عثرت على مصطفى في الزحام بعد نصف ساعة. كان كمن فقد عقله. لم يكن يتحدث مع أحد منا. لم يكن يرفع رأسه من الأرض ولم يكن ينظر إلى أحد منا. عبرنا في ذلك اليوم من قرية. لكننا لم نرَ إنساناً ولا حيواناً. كان المكان مغلفاً بالسكون. لم يعد أحد يقول إن الألمان يأخذوننا إلى القرى. وعند المساء وقفنا في واد ممتد فسيح. الأسرى وهم تحت السحب الرصاصية المنخفضة يئنون ويدخل بعض في أحضان بعض وينامون. لم نكن نتحدث قط. وكانت في عيني مصطفى نظرات منطفئة ولا معنى لها، حتى إني كنت أخاف من أن يحدث له شيء، وكنت أدعو وأقول: يا رب: كن معه حتى لا يحدث له مكروه.
وفي اليوم التالي، في ساعة مبكرة من صباحه استيقظت على أصوات البنادق وصيحات وحشية يطلقها الجنود الألمان، أردت الوقوف على قدمي فخيّل إليّ لأن أسفل ركبتيّ: عبارة عن قطعتي خشب، وسريعاً انهرت على الأرض وعثمان بجانبي. أمسكني من وسطي وقال:
- قم يا صادق آغا. قم. لا تتأخر.
ولم أكن أستطيع القيام، كنت كإنسان فقد ساقيه. لكن عثمان المسكين كان يتوسل إليَّ قائلاً: قم يا صادق آغا. قم، نزعت حذائي. جاء مصطفى ليساعدني، لف خرقة من القماش وقطعا من القمصان القديمة، لفها على ساقي. تقدمت مستنداً على كتف عثمان. عشنا طوال اليوم في محنة ورعب. كنا نأمل الخلاص عندما كنا نمر بكل قرية. لكننا عندما نخرج من قرية كنا نتطلع إلى القرية التالية بأعين دامعة مرة أخرى. كنا نخرج ذا ت مساء من قرية فحدث حفل من نار ومن دم بكل معاني الكلمة. نزل بعض الأسرى إلى البساتين الموجودة على جانبي الطريق. لم يطلق الألمان النار عليهم رغم رؤيتهم لهم. عاد هؤلاء الأسرى من البساتين وانخرطوا في صفوف الأسرى ثانية وكانت الكوسة والبنجر في أيديهم. مئات الأسرى الذين رأوا هذا المنظر، انطلقوا هم الآخرون بدورهم إلى البساتين. وفي تلك اللحظة حدث ما حدث: أخذت فوهات المدافع الرشاشة تصيب الأسرى بوابل من رصاصها. لا أدري كم شخصا استطاع النجاة من هذه العاصفة النارية؟
وبينما نحن نتقدم، كانت تتجلى في أعين خليل وعثمان الشاب نظرات غاية في الغرابة: عندما كان ينظران إلى أفواه الأسرى الذين كانوا يأكلون الكوسة والبنجر.وحتى الآن، ما زالت صورة هذين الوجهين الشابين تتراءى لي. وجهان شابان بريئان أبيضان كالحليب، غَضَّان. هذان الوجهان اللذان ظهرا لي فجأة بين النار والدم فرأيتهما، إنما أعطتهما لي أمتي كأسلم إيمان وأقوى إيمان. لن يخرجا من عقلي حتى آخر نفس في حياتي.
يحل الظلام. البرد مفزع. غطت السحب السماء. كذلك تبدو كأنها ستمطر. خليل بجانبي يقول بعض أشياء لكني لا أستطيع فهمها جيداً. إنه يبدو مريضاً. يتلفظ بكلمات لا أدري ما إذا كانت أنيناً أم سبّاً أم شتائم. أذهب إليه يمد يديه فجأة إليَّ. لكنه ينهار، قبل أن أصل إليه ويقع على الأرض. يحاول - وهو يرتعش- أن يشرح لي بعض الأشياء.
- ماذا بك يا خليل!
لا يجيب، لكنه يمسك بقدمي وهو يرتعش. ورويداً رويداً يحل الظلام بالمكان، عربات النقل البعيدة تضيء الصحراء بأنوارها الكاشفة، وهي على الجانب الأيمن من الطريق. نخرج إلى الصحراء وننام تحت أضواء القمر الطالع بين السحب المتفرقة في منتصف الليل، كان الأسرى يرقدون في الوحل. إنه منظر يتفوق على جهنم دانتي.
- واستيقظنا في الصباح الباكر على صوت الألمان المختلطة بصيحاتهم المتوحشة. كان ذلك هو اليوم الثالث على خروجنا من المعسكر، لقد أصبح ذلك اليوم من أسود أيام حياتي. وكنت أخاف من كتابته. لم أفكر في كتابته وقت أن شرعت في كتابة مذكراتي. آه لو كنت فكرت في هذا من قبل، ربما لم أكن أبدأ قط في كتابة مذكراتي. أكتب هذه الأسطر مع رنين صوتيّ خليل وعثمان، في أذني.
خليل يتقدم بسكون، إنه بجانبي وعلى وجهه تعبير مخيف، في المقدمة يسير مصطفى مهتزّاً كأنه سكّير، وبجواره أنور. إنه أيضاً مثلي حافي القدمين. لم يلبس حذاءه في ذلك الصباح، كان يحمل حذاءه على كتفه فقد كانت الحاجة ما تزال إليه. أما عثمان فقد كان يسير خلفي قليلاً. كنت أحياناً أسمع أنينه. وهو يقول:
- آه يا أمي! ترى هل أستطيع التحمل؟!
سمعت بكاءه فالتفت إلى الخلف وسألته:
- ماذا جرى يا عثمان؟
لم يجب. لكن دموع عينيه، تنساب على وجنتيه تاركة فيها آثاراً متسخة. وبنفس الأنين قال:
- آه يا أمي، أأستطيع التحمل؟ أأستطيع التحمل؟!
وبينما أخفف عن عثمان ألمه، إذا بخليل، فجأة، يأخذ رأسه بين كفيه ويلقي بنفسه على الأرض يعوي كالحيوان وهو ينهش الأرض بأظافره. وعندما انحنيت أريد إنهاضه على قدميه، عض يدي، قال له عثمان وقد جاء بجوارنا مسرعاً:
- أجننت يا خليل؟ أجننت؟
وتجمعنا بعد قليل - كلنا - حول خليل. ينظر مصطفى إلى خليل عاتباً. مسكين خليل، عيناه في الأرض، ويداه وقدماه ترتعشان. يقترب عثمان من خليل، يريد أن يمسكه من كتفه لكنه يخرج في تلك اللحظة من الصف وهو يأخذ رأسه بين يديه، ويغيب في الوادي هل ينوي الموت؟ يا ربي!!! يصيح مصطفى من خلفه قائلاً:
- عد يا خليل! عد يا خليل!
وخليل لا يسمع. رأسه بين يديه ويجري بسرعة البرق نحو الوادي. نحو سيارات النقل الألمانية. يجري عثمان خلف خليل وهو يصيح به. أمسكت بكل من مصطفى وأنور: من ظهرهما، ثلاثتنا أيضاً ننظر إلى خليل وهو يجري نحو سيارات النقل. وفجأة صوت بندقية. يتوقف خليل، وكالسكّير، يتقدم خطوتين أو ثلاثاً ثم ينكفئ أرضاً على وجهه طلقة ثالثة من خلفه.. في هذه المرة ينقلب عثمان خلف خليل على بعد ثماني خطوات أو عشر.
يغطي مصطفى وجهه بيديه ويبكي وكأنه يختنق. يده طوال النهار على كتفي وهو بجانبي. يستغفر الله ويرجوه رحمته.
في اليوم الرابع من خروجنا من المعسكر، يختفي أنور في زحام الأسرى. أبحث أنا ومصطفى عنه حتى المساء فلا نجده. ماذا حدث لأنور؟ أهو أيضاً لقي نهاية عثمان وخليل لا أدري. في تلك الليلة أيضاً كان المطر ينزل غزيراً. طوال الطريق الذي سرنا منه صباحا كنت أنحني لأشرب من المياه المتجمعة في الحفر، عندها يبدو مصطفى كأنه يعاتبني على هذا، فلا ينظر إلى وجهي. لحيته الفاحمة السواد الخشنة الكثة وقد استرسلت. وعيناه قد انتفختا من البكاء. إن رؤية إنسان قوي متين وقد أخذه الانهيار، ليضيف إلى الإنسان مرارة أكثر من تلك التي يحسها! أسأله أحياناً لمجرد الاسترسال في الكلام:
- هل سنستطيع التحمل يا مصطفى؟
فيهز رأسه فقط دون فتح فمه. ولا أستطيع جيداً فهم ما يعنيه. وبدوري لا أسأله أكثر. وبينما نعبر من قرية خربة، إذا بمصطفى يضع في يدي شيئاً كأنه معوذة، ويقول:
- خذ هذه واحتفظ بها يا صادق.
يقول هذا وفي قوله ذلك الهدوء المخيف الذي يغشى الناس الذين يصرون على ضروسهم حتى يكبتوا صيحاتهم. وعندما سألته قائلاً:
- وما هذا يا مصطفى؟
- رأيت الدموع المتجمعة بين جفني عينيه. أفك عقدة هذا الشيء الذي يماثل المعوذة، فيخرج منها شعر أسود مجعد.
- من شعر السيدة؟
- لا. إنه شعر ابنتي عائشة. تركتها في المنزل رقم 15 شارع قنطار. وفي لحظة يبدو أمام عيني المنزل رقم (15) في شارع قنطار، وفتاة لطيفة بشعر مجعد وعينين سوداوين تقف على عتبة الباب. أخرج من جيبي الداخلي صورة بكر وأمدّ يدي بها إلى مصطفى. شوق قلبين يعانق بعضهما بعضاً وكل منا يبكي على صدر الآخر. قد تكون بعد هذه الدقيقة، بداية التغير في نفسي. إن هذا لإحساس غريب!
هناك تل بعيد، عند عبوره يخيّل إليّ أنني سأدخل ضفتي ((صالغير)) ومنهما إلى حديقتنا الخضراء. وفي نفس الدقيقة وبينما أنا على ذلك، يختفي من أمام ناظري، التل الواقع على الناحية الشمالية. والآن، أمامي أكوام من الأرض الصفراء الطويلة. صالغير خلف أكوام هذه الأرض. آه لو أستطيع عبور هذه الأكوام. سأشرب من مياه ((صالغير)). فقط أجتاز أكوام الأرض هذه. كم قريبة منا هذه الأكوام. يا الله!! ألا أجتازها؟ منذ متى ونحن نسير؟ كم هي بعيدة أيضاً أكوام الأرض هذه!! لو أستطيع التحمل!! قليلا.
يخيل إليَّ في كل دقيقة أن جبل ((آيي داغ)) سيخرج من آفاق السماء بسفوحه. هذه السفوح التي لا لون لها. وخلف الجبل، جبل آيي داغ: سواحل البحر الأسود العذبة: درمان كوي، قيزيل طاش، كورزوف، والماء البارد.. الماء.. الماء.. الماء يا ربي. نقطة ماء.. لكن عليَّ أن أعبر أكوام الأرض الصفراء الطويلة هذه التي أمامي. ثم يحدث ما يحدث. أخرج منها فقط! يأتي مصطفى بجواري زاحفا. لماذا لا يجري؟ لماذا؟ يبدو أن خليل وجودت وعثمان وأنور بجواري. لماذا لا يجري هؤلاء الأطفال ذوو القلوب النقية؟.. آه لو أصعد على أكوام الأرض الصفراء تلك.. يرتفع شيء طويل دقيق إلى السماء خلف الأكوام يا ترى.. أهي مئذنة جامع طوقال في آق مسجد؟ أذكر.. أذكر أن الروس هدموا ذلك الجامع في عام 1934.. ولقد شاهدت سقوط هذه المئذنة من نافذة فصلنا في المدرسة. آه.. ذلك الجامع.. ذلك الجامع.. دار العبادة والإيمان، التي ارتفعت وأقيمت بأيدي أجدادنا، بأياديهم المشققة التي جمدت طبقات جلودها. هدموا الجامع، وانتهى.. وسليمان؟! أين هو الآن؟ أصوات الشباب القادمة من السماء، وأصوات أجدادي ذوي الشعر الأبيض الصادرة من تحت الأرض، تأخذني إلى تلك النواحي. آه لو أصعد على أكوام الرمل الأصفر هذه.
وفجأة أرى أن الأكوام قد انتهت. أرى مكانها في المرتفع ثلاثة منازل، أسطحها من التبن. نسير في اتجاه المنازل. إن شمسا تغطيها طبقة رقيقة من الضباب. حمراء اللون، في حجم الصينية، تختبئ رويداً رويداً خلف المنازل، أفيق رويداً رويداً. تهز النساء الملتحفات بالشالات في حدائق المنازل وفتيات أوكرانيا الشابات، أيديهن لنا بالتحية، نقترب من الحدائق. الإنسان الإنسان والبشر الحق. الناس الطيبون الذي يحيوننا يرفعون لنا أيديهم بالتحية. فماذا عن الألمان؟ إنهم يجرون من على يميننا ومن على شمالنا ضائعين. لم نعد نسمع أصوات البنادق. منذ الصباح ولم أسمع صوت بندقية، لماذا؟ ماذا يحدث لم أفكر في هذا قط..
نسير أمام الحدائق. أخذت النساء رؤوسهن إلى أكفهن. يبكون وقد أخذن يهتززن والفتيات الشابات يلوحن بأيديهن وبينهن النائحات والصائحات. صوت بجواري يسأل:
- أين نحن؟
- النساء في الحديقة يصحن بصوت عال، يقلن:
- أومان! أومان.
نجتاز تلك المنازل. وتبدأ المنازل الواطئة من على اليمين وعلى الشمال. في حدائقها عدة نساء وفتيات. وبينما نعبر من أمام المنازل هذه إذا بامرأة شابة ترتدي ملابس بيضاء - وكانت حاملا - تجري نحونا. وفي يدها خبز تحمله، وعندما رأيت الألماني الذي يسير بجواري قد شهر بندقيته تجاه المرأة، إذا بقلبي يصعد إلى حلقي، تضع الخبز على رأسها وتجري نحونا. صاحب إلقاءها الخبز إلى الأسرى صوت انطلاق البندقية، تتوقف المرأة. تحاول العودة إلى الحديقة، لكن قبل وصولها باب الحديقة، تترنح. تقع على الأرض.. على ظهرها.. وفي صدرها بقعة حمراء فاقعة.. لكن الذي رأيناه وعانيناه قد أخرجنا من نطاق الإنسانية حتى إننا واصلنا مسيرنا دون أن نفتح لنا فماً، بل حتى دون أن ننظر إلى المرأة الراقدة على الأرض.
ندخل المدينة. أمامنا كنيسة. وعلى جانبي الطريق حائطان من النساء والفتيات، مناديلهن في أفواههن، يبكين. كثير منهن يردن الجري من جانب الجنود الألمان لإلقاء الخبز الذي في أيديهن إلينا. يا لشجاعة الفتيات الأوكرانيات ذوات الخدود التفاحية والعيون الخضراء.
إني أدهش من شجاعتهن المتناهية التي تخلو من أي أثر للخوف من الرصاص ومن الموت. في هذه الأرض المملوءة بالنار وبالدم وبين ألف محنة ومحنة، لا نجد نيران الرحمة متوقدة إلا في عيون تلك الفتيات. وكأن الحياة لم يبق لها بقاء إلا في أعينهن فقط. نساق بين الألمان ونجري. وهم يَجْرون صائحين بنا، عن يميننا وعن شمالنا. نحن الآن في شارع ضيق، وأطفال ألصقوا وجوههم النحيفة الدقيقة على زجاج نوافذ المنازل ينظرون إلينا مشدوهين. مساكين هؤلاء الأطفال. أيشاهدون هذه الأيام المرة، وهم في هذه السن الغضة. تُرى أيقولون في ذهابهم إلى النوم هذا المساء:
يا جدتي! احكي لنا حكاية!
ندخل في ميدان واسع يشبه السوق. لا نسمع صوت الألمان المتوحش المفزع. على اليسار هيكل من حديد أحمر، لبناء كان في وقته شامخاً، والآن محترق. أرى من خلال الحديد مجموعة عربات سكة الحديد. لا بد أن يكون هذا المكان محطة سكة حديد. هل ينقلوننا إلى القطار؟ لا.. إننا نصعد من المرتفع الذي على اليمين ثم نجد أنفسنا بعد قليل في واد. يخطر في ذهني الآن أن الألمان سيسوقوننا إلى الموت المحقق. خاصة بعد أن تركنا خلفنا المدينة والناس. أبحث عن مصطفى. لا أثر له. أخاف. أين مصطفى؟ لو أجد مصطفى وأمسكه من يده، في هذه الحالة لن أخاف من شيء. حتى من الموت. أريد أن أبكي مثل الطفل وأنادي باسم مصطفى. نحن الآن في السهل. لم يطلق الألمان النار بعد. آه لو أجد مصطفى وأمسك به من يده قبل أن يبدأوا في إطلاق النار!
ومرة أخرى أرى أمامي أكوام الرمل الأصفر التي كانت منذ حين. أرتعش.. إلى أين نحن ذاهبون؟ أإلى الموت مسوقون؟ لا.. لا.. أين مصطفى؟ شارع قنطار.. المنزل رقم خمسة عشر. على عتبة المنزل، عائشة بشعرها الأسود المجعد.. إذن أين مصطفى؟ إننا نذهب إلى القرم. إن خلاصنا هناك، فيما وراء أكوام الرمال الصفراء التي أمامنا. على اليمين سقائف مستطيلة. السقائف تشبه مخازن الدخان الموجودة في قرى الساحل في القرم. ترى هل هؤلاء الناس الذين بين السقائف أسرى أيضاً؟ يشبهون الأسرى. أقدامهم ملفوفة بقطع قماش قديم. يعلو التراب وجوههم وبجوارهم جنود مسلحون. نعم إنهم أيضاً أسرى.
نجتاز السقائف. نقترب من أكوام الرمل الأصفر الموجود أمامنا. لكن الأسرى الذين في الأمام يختفون قبل الوصول إلى الرمال. وكأن الأرض فتحت فاها وابتلعتهم بهدوء لا أصدق. أنظر باضطراب وحيرة إلى السقائف السابقة. لا أجدها في أماكنها. حتى الأسرى الذين كانوا بينها، اختفوا، وقافلة الأسرى التي تتقدمني تقل في عددها ويقصر طابورها. وقبل وصول الأسرى إلى الأكوام الصفراء يختفون!! ماذا أرى؟ أهو حلم؟ لماذا كنت أنتظر الخلاص من هذه الأكوام؟ لماذا يختفي هؤلاء الناس من أمام عيني؟ أين مصطفى؟ أين.. ؟
نحن لم نعبر مدينة ولم نقترب من الأكوام. ويبدو غالباً أننا في السهل الذي نمنا فيه ليلة أمس، وما زلنا فيه. كل ما أراه كان خيالاً. أريد أن أفيق. أرتعش الآن.. أنظر مرة أخرى إلى أكوام الرمل الأصفر التي في الأمام. ما زال الناس حتى الآن يختفون أمام عيني. أخوف ما أخافه الآن هو من هذا. ليس هناك أدنى تغيير في أوجه الناس الذين يتقدمون أمامي وهم يحجلون. ترى هل يريدون أن يغرق الأسرى في الرمال التي في الأمام؟ أتمرد على الذهاب إلى الموت هكذا، دون حس ولا خبر. أليس لهؤلاء الناس أحاسيس؟ كل حياة الإنسان المشرف على الغرق في الماء، تتراءى له أمام عينيه عند لفظه أنفاسه.. وأنا الآن أيضاً، تظهر أمام عيني صورة أخي بكر، يبدو أنني لا أؤمن بأنني ما زلت على قيد الحياة إلا لدقائق قليلة قادمة، على رأسه طاقية شركسية ضخمة. ينظر إلى عيني ويضحك، وكأنه يريد بنظراته هذه أن يتدفق كل حُبّه لي من قلبه مباشرة إلى قلبي. آه لو أن هاتين العينين تنظران ضاحكتين هكذا إليّ حتى أموت؟ ثم يقول والدي وهو يمسك بيدي بجوار حديقة جامع طوقال:
- لا تخف! لا تخف يا بني!
تأتي من تحت الأرض أنّات عميقة وتدخل مسمعي. يا ربي، أين أنا؟ أرى حفرة واسعة وعميقة بيني وبين أكوام الرمل الصفراء. يبدو قاع الحفرة كجهنم. آلاف الأسرى يتلوون في الطين، في الحفرة وهم يئنون. أنزل إلى الحفرة وأختلط بموجة الأسرى القادمين من خلفي. أسير وأنا أدوس على الأسرى الذين يئنون تحت قدمي. ينام أكثرهم في الوحل دون حراك. أموتى هؤلاء، أم ما زالوا على قيد الحياة؟ لا أدري بالضبط كم مشيت بين الأسرى؟ إلا أني أخيرا انهرت على الأرض. رفعت رأسي فإذا بكل مكان مظلم كالسجن. في داخلي صوت غريب يقول: أين أنا؟ وعلى جوانبي الأربعة من كل اتجاه:أنّات وأنّات وأنّات، وأنّات.
لا أذكر جيدا بالضبط كيف ومتى خرجت من الحفرة. أفقت ذات صباح أمام أبواب معسكر في الرياح الجليدية الفظيعة.كانت رطوبة الصباح تعمل عملها في عظامي. كنا ننتظر ويختبئ بعضنا في بعض. وبعد ساعة بدأ الجنود الألمان يتجمعون حولنا بأسلحتهم ووجوههم العبوسة. وكانت عيونهم تتفجر شرراً. أما نحن فقد اعتدنا على تلك العيون وتلك الصيحات. حتى الدم والموت، لم يعد من الأشياء التي نأبه لها كثيرا. لم نكن نعلم المكان الذي سيسوقوننا إليه، ولم نكن أيضا في شغف لمعرفة ذلك، وفجأة إذا بصوت آمر، وإذا بالجنود الشباب يحولون تجاهنا قواعد بنادقهم ثم يهجمون علينا. سقط أغلبنا على الأرض تحت قوة ضربات مؤخرات البنادق، دخل الألمان بيننا، أطلقوا صيحاتهم، وأخذوا يكيلون لنا الضربات بمؤخرات بنادقهم هذه. وأخذوا يقسموننا إلى قسمين: مجموعة الضعفاء وهؤلاء كانوا الذين وقعوا أرضا، ومجموعة الأقوياء، وهم الذين لم يقعوا على الأرض، لم أسقط أنا على الأرض، لكن الألماني الذي أمامي نظر إلي متفحصاً من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ونظر إلى لحيتي وقال:
- عجوز! عجوز!
وضمني إلى مجموعة الضعفاء. شاب
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha