في ذلك المساء , نقلني الجندي الألماني إلى المنازل المقابلة وأغلق عليَّ إسطبلاً ؛ إسطبلاً مظلماً . لم يتحدث إليّ ولم أتحدث إليه طوال الطريق . كان ذلك نتيجة لعدم معرفتي جيداً بمعنى الأسر . كنت مسروراً بالنجاة من عاصفة النيران . كان يخيّل إليَّ أن هدير المدافع وأصوات انطلاقات البنادق - وكانت تبتعد عني رويداً رويداً - أنها آخر أنَّات الحرب . كنت أظن أن الحرب قد انتهت بالنسبة إليَّ . فكّرت في البداية أن الحرب شيء غريب , وكان ذلك قبل إحساسي بالوحدة في الإسطبل , وأن ديدباناً يقف بسلاحه أمام الإسطبل , وأنه لا يتركني . وبدون إرادة بدأت أرى هذا الإحساس لم يستمر طويلاً . استيقظت في أعماقي ذكريات حلوة . فكرت في بلادي الجميلة . تذكرت كل حديقة في قريتي وكل أشجارها وكل بيت فيها , وعيون الماء , والمياه . ثم رأيت وجه أمي بكل جماله , وبكل رحمته . كانت تنظر إليَّ بعينيها الباسمتين . أردت أن ألمس شعرها الأبيض وأربت عليه حتى الصباح وأضغط رأسها على صدري . كانت أمي أحياناً تختفي من أمام ناظري . وكنت أحاول استرجاعها مرة أخرى أمام عينيّ . في ذلك الوقت كان ألماني يندس بيننا ويصيح , وعيناه قد امتلأت دماً , وكانت رهيبتين , وحاجبها مقطّبين ويقول : ((بولشفيك ! روسكي . . روسكي !)) . ثم نمت . وفي الصباح التالي وجدت عندما استيقظت عدة أسرى في الإسطبل . كنت لم أشعر بأن أحداً ألقاهم في الإسطبل . كلهم متعبون وكانوا مثلي منهكين . بينهم جرحى , وكانوا يتحدثون بصوت خفيض . فتح باب الإسطبل بعد قليل , وامتلأ الداخل بضوء الصباح اللطيف الذي في الخارج . كانت الحدائق الخضراء التي تظهر من فوق أكتاف الجنود الألمان المسلحين الواقفين أمام الباب , تتمتّع بالدفء تحت أشعة الشمس. بدت الدنيا لي وهي بلا حرب ولا نار ولا موت , جنة من الجنان . أخذت أفهم رويداً رويداً أن دنياي تختلف عن دنيا الموجودين معي في الإسطبل . وعندما وقفت على قدمي وأردت السير نحو الباب , رأيت بجواري إيفان الكسندروفيتش شيشكوف . كان يرتدي ملابس ممزّقة من على ظهره , قذرة وبلا أوسمة . كان وجهه يبدو مضطرباً جداً . مريضاً مرهقاً . نظر إلى عينيّ وكأنما كان يريد قراءة ما بقلبي . ابتسمت . اتجه برأسه إلى الأمام وفجأة رجع إلى الخلف وسار ناحية الجانب الآخر من الإسطبل . فهمت من حركته أنه لا يريد التحدّث معي . هل كان مغتاظاً مني لأنني وقعت في الأسر ؟ ألم يؤسر هو أيضاً؟ ! ربّما لأنني ورجالي لم نستطع مقاومة هجوم العدو ؟ ! ماذا يمكنني أنا أن أفعل بثلاثين رجلاً , في الوقت الذي لم يستطع هو المقاومة بألف جندي . لم أفهم معنى حركة شيشكوف هذه إلاّ بعد يومين . قبيل مساء أحد الأيام جاء الألمان وأخذوا من يحمل رتبة كومسيسر من الموجودين بيننا . وذهبوا بهم إلى حيث حفرة عميقة على أحد أطراف ألكسندروفكا , وأجلسوهم على ركبهم على حافة هذه الحفرة التي كان الألمان قد جعلوا الأسرى يحفرونها بأيديهم , ثم قام الألمان بإطلاق الرصاص على رؤوس هؤلاء الذين أخذوهم من بيننا . شيشكوف فقط هو الذي بقي حيّاً منهم . كنا معاً في معسكر كيفوجراد , ثم بقي هو في كيفوجراد وأرسلوني أنا إلى معسكر أوصان .
عند اقتراب الظهر , جاء الجندي الألماني الذي أسرني قبل يوم إلى الإسطبل ودعاني إلى الخارج . خرجت . نسير الآن في شارع ضيق ممتد بين الحدائق . أخاف قليلاً , ولكن كنت أفكر في الوجهة التي سيرسلونني إليها , أكثر من تفكيري في الموت . ربما يطلقون سراحي ؟! . . من يدري ؟! ولكن هل يمكن أن يطلقني من إساري بينما الحرب مازالت دائرة ؟! أتلفت حولي : حياة لطيفة وعذبة . وكأن الحياة انبثقت من الأرض وسيطرت من جديد على هذه الأراضي التي استوت بالأمس فقط بأنفاس الموت المكونة من اللهب . ربّما أن الدنيا تبدو هكذا أمام عيني أنا فقط . خرجنا من منطقة الحدائق . نقترب الآن من منزل صغير ؛ انهار سطحه التِّبْنيِّ انهياراً قليلاً . أرى أمام المنزل , في الفسحة البيضاء , مطبخاً عسكرياً وكان أحدهم يتجول بجانب المطبخ , وكان يرتدي قميصاً أبيض اللون , وكان طويل القامة يشبه المصارع ويبدو مسروراً . أفهم أنه الطاهي . توجه الألماني الذي معي إلى هذا الطباخ وقال له أشياء , يتحدث عني , ثم يتركني بجانب الطباخ ويرجع . ينظر الرجل ذو القميص الأبيض إليَّ شذراً , ثم يشير وهو يضع يده على كتفي إلى الحطب والفأس الذي بجوار جدار المنزل أفكر أنهم جاؤوا بي هنا لكي أخدم . أضحك من أعماقي . اشتغلنا لحساب الروس سنوات طويلة , وقعنا في الأسر , وعلينا الآن أن نقطع الأخشاب للألمان !!
- أنا راض بقطع أخشاب غابة كاملة وليس خشباً بسيطاً فقط , إنما فقط يا صديقي حَرِّرْ أمتي .
يهمس الألماني بأشياء ثم يحدّث نفسه , أقوم بكسر الأخشاب , وتنظيف المطبخ . وإحضار حذاءه المتسخ وأنظفه له , وأنظف أيضاً بذلته الرسمية وأعمل فيها الفرشاة . وعند المساء , يعطيني حساء في علبة طعام معلّب فارغة , من صفيح صدئ . وعندما أجلس إلى الجذع الخشبي الذي كنت كسرت أخشابه , أجلس لكي أشرب الحساء , ساعتها يأتي نحوي ويضع يده على كتفي ويقول :
- تورك جوت ! تورك تسيهر جوت .
لكن بسمته تخلو من اللطافة ومن الرحمة . تبدأ الآلام في نفسي . تتجمع . أفكر في هؤلاء الأسرى الذين تركتهم في الإسطبل , جياعاً مرهقين , أفهم أن الحساء الذي أعطاه لي الرجل في العلبة الصفيح الذي أحمله في يدي إنما كان فقط من أجل أنني تركي . لا أدري لماذا يخيّل إليّ أنني بعت تركيتي بثمن بخس ؟ وأخيراً تركت العلبة الصفيحية بجانب الجذع الخشبي وأقوم واقفاً على قدمي . قال لي الألماني وكأنه يأمرني :
- كل ! كل !
لا أستطيع الأكل . شيء يقف في حلقي . أريد وأنا أحرك رأسي أن أشرح للألماني أنني لا أستطيع الأكل . تتغيّر ملامح وجهه , وفي لحظة , يرجع إلى الخلف وينظر في عيني كأنه حيوان متوحش عزم على تحطيم من أمامه , وشفتاه ترتعشان . ينفتح جناحا أنفه وينغلقان . يتحول إلى حالة مخيفة . يضطرب . أفكر في أي ذنب اقترفته حتى يصبح هكذا؟! اللهم احمني . يبدأ التوتر يتملكني .
يصيح الألماني وهو يشير بيده إلى العلبة الصفيح قائلاً :
- نيخت جوت ! نيخت جوت .
أفهم الآن أن الألماني قد غضب لأنني لم أشرب الحساء , وبينما أظن أن هذا لن يستمر طويلاً , وقبل أن تطرف عيناي , يقلب الألماني بقبضة يده العلبة , وينطلق نحوي . أسقط أرضاً بلكمة قوية تنزل على فكي . يقدح في عيني برق , وقبل أن أجد وقتاً لكي أقوم يأخذني الغبي أسفل ساقيه ويبدأ في تسديد ركلاته إليّ . ينزف الدم من أنفي حتى أذني وتنشق شفتاي . يداي ووجهي ينزفان دماً , ثم ينهضني على قدمي وكأنه يمسك بتلابيبي ويدفعني أماه ويسوقني إلى الإسطبل . ويسدد إلي ركلة أخرى عندما أخذنا طريق الحديقة بعد خطوتين أو ثلاث خطوات . يضربني على رأسي بلكمة ويدفعني . أجثو على ركبتي , أتكوّم على الأرض , أزحف . تعوي الكلاب في الحدائق وحتى وصولي إلى الإسطبل , ولا أدري هل السبب في ذلك الألماني أم حالي الغريب ؟ لا أدري . أدير أحيناً رأسي يمنة ويسرة في خوف . أرى خلف نوافذ المنازل الواطئة , النساء كبيرات السن , كنت أيضاً أرى الفتيات لكنهن يبتعدن عن النافذة بمجرد أن يروني . الألماني أمام الإسطبل يمسكني من ذراعي ويقذف بي إلى داخل الإسطبل . أتكوم وأنا منطرح أرضاً على وجهي بين الأسرى . ينظر الأسرى نحوي نظرات دهشة وتعجّب , ثم رويداً رويداً يبتعدون عني وهم يتحدثون بصوت خفيض :
- ضد ألمانيا . .
- إنه كوميسير من المفوضين السياسيين الروس .
- لم يُضرب هذا الديوث إلأّ قليلاً , كان يستحق القتل .
لا أستطيع إخراج صوتي . لا أحد ينظر إليّ , لا أحد يعرفني . أرى هناك بجوار الحائط إيفان ألكسندوفيتش بكتفيه العريضين , وهو يدير ظهره إليّ . يخيّل إليّ أن شيشكوف بعيد عني جداً . أنهض بهدوء على قدميّ وأنسحب ناحية ناصية مظلمة في الإسطبل . وهناك بقيت كطفل يتيم لا أحد له , أبكي وأنا أنظر إلى الدماء التي جفّت في ذراعي وبين أصابعي .
يبدو الجاويش (( واصل ايف )) أمام عينيّ . يا إلهي !! لماذا لم تخترق مخي تلك الرصاصات التي اخترقت رأسه مساء أمس ؟ !
لكني أحسست , في تلك الليلة , بآلام قلبي , أكثر من إحساسي بآلام عظامي . رأيت أمي تتجّه نحوي , في منتصف الليل , كانت تسير على الأسرى النائمين في الإسطبل, وقد ارتدت ثوباً أسود من الحرير . الثوب يمتد من رقبتها حتى كعبي ساقيها . وكان شعرها مضطرباً , تمسك في يديها سيفاً دامياً تشهره نحو الأمام . استيقظت . قمت واقفاً على قدمي وأنا أَخُرُّ عَرَقاً , فاختفت أمي من أمام عيني . أهي رؤيا ؟ . . لقد رأيت أمي , بعدها مرتين أخريين , وهي تشهر سيفاً دامياً وتسير نحوي , بنفس ثوبها الطويل الأسود , وشعرها مضطرب بنفس الشكل .
وصل قسم آخر من الأسرى إلى الإسطبل مساء 11 أغسطس , وبذلك وصل عددنا إلى خمسمائة . امتلأ الإسطبل كثيراً حتى وقفنا ليلاً - وحتى الصباح - على أقدامنا . وفي اليوم التالي - مبكراً - جمعنا الألمان في ميدان في طرف القرية . وحولنا حلقة من الجنود المسلحين . نحن في وسطهم طوال اليوم , استمعنا إلى الأخبار التي أتى بها الأسرى الجدد . يقول هؤلاء الجدد إن الفرق الألمانية كانت تتقدم نحو الغرب بسرعة البرق . وإذا تقدم الألمان بهذه السرعة فإن موسكو ستسقط مائة في المائة خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع . كان مما لا شك فيه أن الهجوم لن يفقد سرعته , ذلك لأنه ليس ثمة أحد يرغب في الحرب ضد ألمانيا في صفوف الجيش غير الكوميسيرات هؤلاء المفوضين السياسيين , ففي بعض أماكن أوكرانيا قام الفلاحون بالتمرد .
ينظر الأسرى الذين يستمعون إلى هذه الأخبار , ينظرون إلى روسيا التي تتلوى وتتقلص تحت الاحتلال الألماني , كما ينظرون إلى شيء ميت عديم الجدوى . في تلك الأثناء ظهر من بين الزحام صوت يصيح قائلاً :
- الخبز ! . . الألمان قادمون . هناك خبز في عربيات النقل . سيعطوننا خبزاً . وفجأة يحل صمت على المكان . الخمسمائة أسير - كأنهم إنسان واحد - ينظرون إلى الأمام . . إلى أربعة من الألمان يتقدمون نحو الميدان بخطى ثقيلة . يمسكون بطانية سوداء , من أطرافها الأربعة يتماوج الزحام مثل بحر ثائر . يجري هؤلاء البشر الجائعون منذ أيام عديدة بلغ الجوع فيها لديهم ذروته . يمدون أياديهم وينظرون بنظرات وحشية نحو الألمان الذين يقفون في المرتفع المقابل . لكن أحد الألمان صاح قائلاً :
- إلى الخلف ! إلى الخلف ! أيها الخنازير !
تقف الكتلة البشرية فجأة في المكان الذي هي فيه , ثم تبدأ في التراجع خلف ذلك الصوت وكأنها رأت كل ألمانيا الكبيرة والمخيفة . كنت مازلت مستغرقاً أفكر في الأخبار التي أتى بها (( الجدد )) منذ قليل . يتراجع الروس . تسقط موسكو خلال أسبوعين أو ثلاثة , وتنتهي الحرب . تنتهي الحرب وتولد أمتي ثانية . يا ربي ! هل ما أراه حقيقة ؟ أرى دولتي , أرى أمتي الصاعدة وهي تنهض من تحت الذلة وآلاف أنواع الظلم و المشقّة . أرى في بلادي الحرة ذات السيادة , الأمهات لسن باكيات وإنما فرحات ضاحكات مستبشرات . وأرى أولادنا و آباءنا السعداء . أرى مآذن مساجدنا الدقيقة الصنع , أراها تحت ضوء الشمس , وأرى مدارسنا المشمسة وقرانا التامة الاخضرار . ما قيمة دموع عيني بجانب كل هذا ؟ فليضربوا رأسي بالرصاص , وليسفك الرجال السيّئون دمي . ماذا يكون اضطرابي بجانب هذا المستقبل الذي ينتظر شعبي ؟
أتيه فخراً . أحس كأنني وطن , وأنا بين الخمسمائة أسير في الميدان . وبينما كنت أغرق في سعادتي هذه , إذا بضابطين ألمانيين قادمين من الرابية المقابلة . ثم أخذ الجنود , الخبز الموجود داخل البطانية , وأطاحوا به في الهواء . الكتلة البشرية الأسيرة الصامتة , الخائفة تتمرد فجأة . كم تغير هؤلاء الناس في لحظة ؟ كانوا ينظرون كالحيوانات . أصبح كل منهم لا يعرف الآخر ولا يشعر بأحد ولا يستمع لشيء . أصبحوا وكأن ليس لهم علاقة قط بالعالم , وكأنهم لم يروا ولم يسمعوا شيئاً , كأنهم ومنذ أن ولدوا لا يعرفون شيئاً ولا ينتظرون أمراً , إلاّ الخبز . حدث أثناء ذلك شيء لن أستطيع نسيانه قط . رمى الألماني بالخبز الذي يمسكه في يده , رماه وسط زحام الأسرى . ومرة واحدة امتدت ألف يد إلى الخبز . وخرجت نفس الأنَّة الغريبة من خمسمائة صدر . توحشت وجوه خمسمائة أسير وتفظعت , ذابوا مشقة ومعاناة . أفواههم يعلوها الزبد . تصارعوا كالمجانين , نهش بعضهم بعضاً بأظافرهم . عضّ بعضهم بعضاً وجعلوا أنفسهم يسبحون في الدماء . أما الألمان الذين كانوا في المقدمة راحوا – بعد أن ألقوا الخبز على زحام الأسرى – يطلقون القهقهات العالية . وبعد نصف ساعة عادت وجوه البشر الذين كانوا يتصارعون من أجل الخبز . عادت تعبيراتهم القديمة , المسحوقة , المسكينة . وهذا الانفعال والاضطراب الذي كان منذ حين . وعادوا إلى أماكنهم القديمة بهدوء , بلا صوت , وبخطوات ثقيلة . ينظرون بأعينهم إلى الأماكن التي مزّقها الخبز المبارك الذي كان منذ حين .
في صباح 14 أغسطس , قام الألمان بنقلنا بسيارات النقل إلى مدينة كيفوجراد . ربما يريدون أن يستعرضوا الأسرى أمام الأهالي . نزلنا من سيارات النقل في طرف المدينة وعبرنا من وسطها وسرنا حتى المعسكر . كان الأمر يبدو , وكأن عاصفة الحرب التي مرت من هنا قد أخذت الحياة معها وذهبت . الشوارع فارغة , المنازل والدكاكين مغلقة والمكان كله يغط في هدوء عميق . أحياناً يمر من أمامنا , كلب ضال , يتلفت يمنة ويسرة , وهو يهز ذيله . وعلى أول الناصية امرأة حافية القدمين تضغط ابنها على صدرها . وكانت تبحث عن زوجها بيننا وهي تمسح دمع عينيها بيدها .
نعبر السوق , لا أثر لإنسان فيه , ترقد في الميدان عدة عربات بدون عجلات يتراءى لنا سوق بلدة (( المسجد الأبيض )) ( آق مسجد ) بينما نحن نعبر من بين روائح السماد القديم والتبن الفاسد . نعم هذا المكان يشبه سوق بلدة المسجد الأبيض ( آق مسجد ) . ترى هل آق مسجد الآن خرساء لا صوت لها مثل هذا المكان ؟ ثم نعرج على أحد الشوارع . أرى كنيسة أمامنا . أسمع أصواتاً غريبة , تأتي إلى مسمعي من بعيد . نقترب من الكنيسة . الناس على أبواب الكنيسة وقفوا ينظرون إلينا . نصل إلى مركز المدينة . الجنود الألمان الشباب يعبرون من على يميننا وشمالنا بنظراتهم الحادة . يبدون وكأنهم تلقوا تربية شديدة وقاسية وظالمة , أكثر من تلقيهم الفداء والتضحية . وأخيراً نقف أمام بناء , أسدلت عليه شباك حديدية , وهو بناء من طابقين , أبيض الجدران , كان هذا المبنى فيما قبل مركزاً للمخابرات السرية . ويجعل الألمان منه الآن ولمدة ما معسكراً للأسرى . أبواب البناء الحديدية تفتح , وعند عبور هذه الأبواب يعطي الألمان كل خمسة من الأسرى , كيلو واحداً فقط , من الخبز . نأخذ خبزنا ثم ننضم إلى الأسرى الذين اجتمعوا في الفناء المربع العظيم . يتم تقسيم كيلو الخبز الواحد بمهارة وبشكل يتناسب مع حق خمسة من الأسرى فيه . يقسم الرغيف أولاً , إلى خمس قطع متساوية , لا بد أن يوافق كل أسير من الخمسة أن كل جزء من أجزاء الرغيف الخمسة ليست أكبر من الأخرى . ثم يقوم واحد يدير ظهره إلى الخبز وإلى الأسرى الأربعة ويأخذ كل قطعة بيده ويسأل :
- من يأخذ هذه ؟
يقوم الأسير الذي يدير ظهره , يقوم بالإجابة قائلاً : أحمد أو إيفان أو بترو , وهكذا , وبعد أن ينادي على أسماء الأسرى الأربعة مع القطع الأربع تبقى له القطعة الخامسة , لا يستجاب للاعتراضات , ويختفي الأسير الذي يأخذ خبزه في الزحام .
يحدجنا الأسرى القدامى بنظراتهم . يفحصوننا من قمم رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا , وكانوا يسألوننا قائلين :
- ماذا عن الحرب ؟
- أما زال المفوضون يحاربون ؟
- متى وقعتم في الأسر ؟ وأين ؟
بحثت في ذلك اليوم عن مواطن من مواطنيّ في كل الزحام . لكني لم أستطع العثور على وجه أسمر ولا على عينين توقظ نظراتهما في قلبي الأحاسيس الدافئة . إن أكثر الأسرى: روس وأوكرانيون . فريق منهم , كان هؤلاء الذين كانوا يأكلون خبزهم منذ حين , حين أكلوه , مثلما تأكل الحيوانات العلف وهي تضع رؤوسها في المخلاة , أما الباقي , فكانوا يغنون أغاني قازاقية محترقة , بأصوات غليظة .
للشعوب خصائص ذاتية , وكذلك للشعب الروسي خصائصه الذاتية أيضاً . ومن ضمن الخصائص الذاتية للشعوب الروسي : أن يجثو على ركبتيه سريعاً أمام قوة يحس أنها تفوقه . لم أقابل أسيراً طوال أسبوعين من الأسر , حدثني عن بلاده التي تحترق ألماً , وتعرضت للاحتلال . بالعكس تماماً . كانوا يبدون أنهم على استعداد لأن يحبّوا ذلك الذي غلبهم وسحقهم في ذلك المساء , وبينما كنت أجلس بمفردي بجوار الحائط , سمعت خمسة أشخاص أمامي يتكلمون بلغة أجنبية عرفت من بزاتهم الرسمية أنهم جنود رومانيون . كنت رأيت خمستهم في مبنى القيادة في كرانسوي بعد وداعي لجريشة . خمستهم أيضاً كانوا قصار القامة تعلوهم القذارة , ويشبهون الغجر ! كانوا قد وقعوا أسرى في أيدي رجالنا في كرانسوي وكانوا في ذلك الوقت في حالة يرثى لها , شبعوا , كانوا في غاية السرور لسقوطهم في الأسر. دهشت الآن عندما رأيتهم بيننا . في الغالب أن الألمان أسروهم أيضاً مع فرقنا . لكن حركاتهم وأحاديثهم لا تمت بصلة لوضعهم كأسرى . يدخنون حتى إنهم كانوا بين حين وآخر يصرخون في الأسرى النائمين . رأيت أسيراً كان يجلس بعيداً , قد نهض وابتعد عندما رأى الرومانيين يتقدمون نحونا . سألته حينئذ :
- من هؤلاء ؟
- رومانيون .
- أأسرى هؤلاء أيضاً ؟
- كانوا أسرى , إنهم سيأخذون الأحذية الجيدة من قدمي أي أسير عندما يرونها , إنهم متحالفون مع الألمان .
ثم نظر إلى قدمي وقال : في قدميك حذاء جيد , لا تظهره لهم أيها الملازم . ثم ذهب .
بقيت وحيداً تماماً بجوار الحائط .
كنت أفكر قائلاً :
- لو أن ديوثاً منهم مسني , لقتلته .
كان للأسير الحق فيما قال , فلقد أوقعوا أسيراً في الأمام , وأخذوا حذاءه من قدميه. مسكين ذلك الرجل , إنه يجري خلف الرومانيين , يتوسل إليهم وهو يمد يديه إلى الأمام , يبكي . كان يريد حذاءه . والرومانيون أيضاً . كانوا بين الحين والحين يعودون إلى الخلف ويوجهون لكمة إلى الأسير , ثم يميلون إلى أسفل وينظرون أيضاً إلى أقدام الأسرى النائمين في الفناء . والآن , يتوجه واحد منهم نحوي . إبليس قصير القامة , نحيف , أسمر نحيل الوجه ! يداه في جيبيه , يركّز عينيه على حذائي . يتقدم نحوي وهو يصفّر :
- لو مد يده عليّ . لو مسّني . .
يقف بالقرب مني على بعد ثلاث خطوات . كان وهو يصفّر ينظر إليّ وعيناه تنتقلان من على حذائي إلى وجهي ومن وجهي إلى حذائي , وكلّما نظرت أنا بدوري إلى وجهه أحس بأن قوة مدهشة تجمّعت في نفسي . قبضتا يديَّ تثقلان , ومن ناحية أخرى أحاول أيضاً أن أكون رابط الجأش . تقدّم خطوتين أخريين ووقف بجواري , وأخذ ينظر , وكأنه تاجر خبير , بسكون , إلى حذائي. وفي اللحظة التي مس فيها إحدى فردتي حذائي , اسودت الدنيا أمام عيني . أنهض واقفاً . أصيح قائلاً :
- ابتعد . . ابتعد . .
وعندما انحنى الروماني مرة أخرى على حذائي اتخذت قراراً سريعاً , ألقيت بنفسي عليه . كنت كالحيوان المفترس . وجه الروماني تحت قدمي , وقد احمر الوجه احمراراً شديداً . خاف أصدقاؤه الذين جاؤوا لنجدته عندما رأوا الرعب المفزع في وجهي. ودون أن ينطقوا بكلمة واحدة ودون الدخول في معركة أخذوا الجريح وذهبوا. وابتعد الروس- الذين يتفرجون علينا - ابتعدوا بهدوء وببطء . الحقد والقوة اللذان انتاباني منذ حين , يتولان عني رويداً رويداً . أحس بالغربة والوحدة , تقف في حلقي وببطء الآلام التي تجمعت في داخلي . لماذا ضربت هذا المسكين ضرباً مبرحاً ؟ هل من الصحيح أن تضرب من هو أضعف منك ؟ هذه الأسئلة التي أطرحها على نفسي كانت أكثر مرارة من كل شيء . ولم تنته المسألة على هذا . فبعد نصف ساعة حضر نحوي أصدقاء الروماني الجريح . وكان معهم جاويش ألماني طويل القامة , عريض المنكبين , أشقر اللون , أشعر بالاشمئزاز من عجزي أكثر من اشمئزازي من أي شيء آخر , عندما أفكر في أنني سأكون مجبراً على تسليم حذائي لرومانيين . لم أكن أستطيع ضرب الجاويش الألماني المسلّح . ضربات قلبي تسرع في الدق . ركبتاي ترتعشان . أردت فجأة أن أرمي نفسي على الأرض وأظل أضرب رأسي على أحجار الفناء حتى تتهشّم.
أشار الروماني الجريح نحوي بيد مرتعشة , كان يدل الجاويش الألماني عليّ . اقترب الجاويش مني , ونظر إليَّ : أولاً إلى حذائي , ثم إلى وجهي . لكنه لم يستطع قول شيء , يفكر عميقاً وينظر تارة إلى حذائي وتارة إلى وجهي . وكان صامتاً . ثم التفت فجأة إلى الرومانيين, وصاح يصوت وحشي :
- ابتعدوا عن هنا !! ابتعدوا أيها الكلاب , ابتعدوا أيها اللصوص , بأي حق تتصرفون هكذا تجاه الضابط .
وقع صوت الجاويش الألماني كالرعد بين الرومانيين , هرب خمستهم إلى خمس جهات, وتفرقوا كأنهم صغار الفراخ الجبلية , تجمع حولي الروس الذين كانوا يتعقبون هذا المشهد الذي حصل منذ حين . ثم بدأوا يتحدثون إليّ باحترام كبير .
نمت هذه الليلة بجوار الحائط , وفي الصباح , في ساعة مبكرة جداً منه , أيقظني أحدهم بأن شَدَّ ياقتي . فتحت عيني فإذا بي أرى الجاويش الألماني الذي صاح بالرومانيين مساء أمس , وقد انتصب فوق رأسي . أصابتني الدهشة , في البداية , ثم , وعندما رمى بجانبي , بجانب رأسي , حذاء مشاة قديم , طويل الساقين , كان يحمله في يده, أدركت سبب صياحه مساء أمس بالرومانيين , وفهمت سر زيارته لي في الساعة المبكرة , ولم يكن في وسعي حل آخر . سلّمت الحذاء إلى الجاويش وارتديت الحذاء القديم الذي أعطانيه.
في اليوم التالي الذي أخذ فيه الجاويش الألماني، الحذاء من قدمي، لم أتحدث مع أي شخصٍ قط، في ذلك اليوم بدأت بالنسبة لي حياة جديدة، لكني لم أكن مستعدّاً بعد، لتلك الحياة الجديدة. لم أكن قد فكرت في يوم من الأيام - حتى حينها - أنني سأبتعد عن الحياة التي عشتها. كان هنالك ألمٌ في نفسي. أشمئز من كل الناس. كل شخص في نظري: عدو. وأتصور أن كل شخص ينظر إليّ بعداء. كنت أحس في الحياة الجديدة بضرورة الحرب من أجل الحياة، ولهذا أيضاً أنفر من كل الناس. كنت راضياً بالعودة مرة أخرى إلى الجبهة وإلى الحرب. ضد من؟ ضد أي أحد. وفي أي سبيل. ولشرف أي شيء كان. فقط ألا يكون في سبيل هذه الحياة التي تدور حول جدران أربعة. فقط أخرج من بين هؤلاء الناس. في ذلك اليوم، وكل اليوم، فكرت في الهروب من الأسر. أخذونا بعد يومين إلى معسكر آخر. وهنالك بدأ الأسر بكامل معناه. عندما دخلنا ((شتالاك3.. )) ([1]) فهمت أن الأسر أصعب وأشد وأمرّ من كل شيء. مبانٍ طويلة حمراء وميدان واسع جدّاً، وخلف المباني فوهات المدافع الرشاشة الموجهة نحو الميدان. أبراج مضاءة، والأسلاك الشائكة بين المباني الحمراء، وفي الأبراج كان الألمان يطلقون الرصاص على كل أسير يقترب من الأسلاك.
كان الميدان مزدحماً كأنه المحشر. وكان أكثر الأسرى مشغولين بقتل القمل الموجود في قمصانهم وبناطيلهم. كان بعضهم مقملاً للدرجة التي كانوا فيها يأخذون القمل من قمصانهم بقبضات أيديهم، ويطرحونه جانبا، ويلفت النظر أيضاً هؤلاء الأسرى الذين يرقدون هنا وهناك بلا حركة. ولا يتضح فيما إذا كانوا موتى أم أحياء. لا يبدو عليهم شيء. بعضهم كان يتجول وعيناه في الأرض وكأنه معتوه. والجسد المسجّى على الأرض لا يمكن معرفة موته إلا بعد يوم أو يومين، وأحياناً ثلاثة أيام وأربعة، وذلك بعد أن ينتن جسده. كانوا يجمعون الموتى بجوار الحائط كما يجمعون الحطب. يبدو قلب الميدان مزدحماً دائماً، عند دخول الشتالاك، تقدمت نحو الزحام، سوق. ليس هناك شيء ناقص إلا الطعام. يقدمون هنا نصف سيجارة مع علبة صفيح فارغة، كل شيء هنا موجود بوفرة، الأمشاط، موسى الحلاقة، الأحزمة، الخواتم، حتى ما تستخدمه السيدات من الطلاء. وفي جيبي صورة أسرتي وبكر، وليس في جيبي غيرها، معنى هذا أنني لن آخذ شيئاً من السوق. أنسحب إلى أحد الأركان. أنظر إلى دنياي الغريبة هذه، لكي أتعود عليها. مرة أخرى أبحث عن مواطن يؤنسني. ولكن أين؟! كل واحد يفكر في نفسه، كل واحد يحمل في قلبه مرارته ودنياه، وفي الوجوه لا يمكن عمل شيء إلا قراءة آثار اضطراب الحياة فقط. لا أحد ينظر إلى أحد. لا أحد يتحدث مع أحد.
يأتي المساء، أين سأنام؟ أريد أن أجد مكاناً أنام فيه. أرى مكاناً في جانب الميدان، مكاناً فارغاً، ليس فيه أحد. أتقدم إليه.
الروائح الكريهة تصيبني بالغثيان، قبل أن أجد طرف الميدان الذي أتوجه إليه أرى في الأمام حفر قضاء الحاجة، طويلة وعميقة، وسرعان ما أتجه إلى اليسار وأسير نحو المباني الحمراء. الحجرات مملوءة حتى نوافذ الباب، يتصارع الأسرى أمام الأبواب بعنف وقسوة من أجل الدخول، أقترب من الأسرى، يدفعني أحدهم في صدري:
- ليس هناك مكان يا صديقي، ليس هناك مكان، ألا ترى؟ إننا نختنق. ليس ثمة مكان في السماء سحبٌ رصاصية ثقيلة. الجو يبعث على الضيق، كما يبدو أن المطر في طريقه إلى الهطول ليلاً، ما زلت أبحث عن مكان في الميدان ولا بد أن أجد مكاناً، فالسماء تبدو وكأنها ستمطر ليلاً. أتقدم ببطء. يبدو أنني دست على يد أحدهم، يشتمني وهو يصيح:
- أعمى!.. أعمى.. ألا فقئت عيناك!
- أصوات غاضبة أخرى تشترك مع صوت ذلك الإنسان.
- ابتعد!
- هل تظن نفسك في حديقة؟
- هيا ابتعد عنّا.
كم من مرة وقعت على هؤلاء المساكين، وكم من ركلة تلقيتها منهم. أحس بأني ضعيف عاجز، أشمئز، ليس من هؤلاء الناس الذين لا يحبونني، وإنما من نفسي، وأخيرا أذهب مرة أخرى إلى تلك الحفر السابقة. أصبحت لا أبالي بهذه الروائح الكريهة.. أجلس على حافة حفرة. أحس بانتفاخ في فمي يتسرب رويداً رويداً. يا ربي! يا لهذا من ظلم! ولأول مرة في حياتي أفهم أنني في مكان ليس فيه أمل في الخلاص. أبكي ورأسي بين كفيّ، مثل طفل ضال.
ينتصب في هذه الأثناء أمامي إنسان، فأرفع رأسي وأنظر إلى وجهه، يحدجني بنظرات من عينيه الكبيرتين اللتين استطاعتا رغم ما عانتاه، الاحتفاظ بجمالهما، عيناه رحيمتان. إنه ضعيف نحيف لكنه يبدو كقوة هادئة صامتة من خلال عينيه هاتين. يمكن أن تكون قوتهما تكمن في أني أحبهما. أريد أن أتحدث إلى الرجل. سبقني هو وسألني بصوت خفيض:
- هل أنت تتاري؟
انطلق قلبي وبدا كأنه سينفجر عند سماعي صوت هذا الرجل وجدت نفسي أنهض على قدمي من فرط اضطرابي.
- كيف عرفت هذا؟
- أنا أيضاً قرمي. فهمت ذلك من وجهك. هنا مجموعة من تتار القرم، إذا كنت مهتمّاً فتعال آخذك إليهم.
أفهم فوراً من كلام هذا القرمي أنه قرمجاك([2]).
- ولماذا لا تكون معهم؟
يسير دون أن يجيب عن سؤالي. وأنا بدوري أسير بجانبه. يقف قبل الوصول إلى جدار المبنى الأحمر وهو يشير إلى الأسرى.
- بجانب الحائط هناك.. خمسة أشخاص يجلسون معنا..
- أراهم..
- إنهم تتار.. وأنت أيضاً.. اذهب إليهم.
ومضى يقول:
السماء ملبدة بالغيوم. ويبدو أن الليل سيكون مطيراً. جانب الحائط هو أحسن مكان وقت المطر. تلتصق بالحائط فتنجو من المطر. إياك أن تقول لا بد من الدخول إلى الغرف لأنهم قبل أسبوعين أخرجوا ثمانين ميتاً من الغرف وكان ذلك في صباح ليلة مطيرة. وفي هذا الميدان 28 ألف أسير. وفي المطر يريد كل واحد أن يدخل الغرف، أستودعك الله.
وجدت نفسي أمسك بذراعه أثناء ما كان يهمُّ بالذّهاب.
- تعال معي. ففي هذا المطر مكان لنا جميعا. ألست مواطناً لي؟
- ليس هناك مطر بعد.. كل ما هناك: حائط.. أحياناً تصدر من خلف ذلك الحائط أصوات تؤذي راحة الإنسان. قد تسمع أنت أيضاً تك الأصوات في هذه الليلة. أنا لا أخاف الموت لكني أحب الحياة كثيراً.
ثم مال على أذني وهمس قائلاً:
- وهناك أيضاً أوكرانيون يعرفونني وأخاف منهم.
ثم صافحني ومشى.
أنظر إلى مواطنيَّ الذين يرقدون بجوار الحائط، يتحدثون بأصوات خفيضة. أتقدم. وعندما أصل إليهم ألقي السلام عليهم. ينهضون سريعاً، ويمدون إليّ أياديهم. يبدو أنهم جميعاً من عائلات طيبة. فيهم رقة وحياء. واحد منهم فقط ينظر إليّ بنظرات جافة بعينين ناريتين، وكان في الخامسة والثلاثين من عمره، طويل القامة، عريض المنكبين. لكنه لم يكن دائماً جافّاً. وجهه المؤمن يبدو أحياناً جافّاً وأحياناً أخرى مسروراً. وعندما يأخذ مظهره الجاف، يلوي بشكلٍ قبيح شفتيه الغليظتين تحت شاربه الكثّ، وعندما يضحك كانت أسنانه الحادة تظهر مثل أسنان الذئب، بيضاء مثل الصدف، عنده دائماً ما يشغله يدق مسماراً في حائط، يعلق بطانية، ينظف حذاء، بقطعة قماش في يده، وعندما لا يجد ما يفعله، فإنه إما يصدر الأوامر إلى الآخرين، أو يغني. وكان الآخرون يستمعون إليه بصمت. كان ذلك هو الأومباشي مصطفى الآق مسجدي. يضع الأومباشي مصطفى الآق مسجدي الآن، يده على كتفي ويقول:
- قرمي إن شاء الله؟
- نعم، قرمي، من آق مسجد.
- أيمكن أن يكون هذا صحيحاً؟ يحيا أهل آق مسجد، كلهم كوسة طازة، يا ملازم.
تمتد يد بيضاء من تحت البطانية:
- آه يا مصطفى آغا، ليت لسانك كان حلواً مثل قلبك.
تتلوى شفتا مصطفى بقبح.
- اسكت يا ولد. أنت مريض. وهذا يتعب معدتك.
ثم يلتفت إليّ ويقول:
- أول بيّاع كوسة هو عثمان الآي واصلي. هذا الذي ينام تحت البطانية. وهو تحت البطانية منذ أسبوعين، ولا يفعل غير ذلك. أكل أخونا هذا كوسة نيئة من بستانٍ، على الطريق، أثناء نقل الألمان لنا إلى كيوجراد، وكان هذا سببا في مرضه.
يحاول عثمان بصوت ضعيف أن يظهر نفسه بأنه كان معذورا في هذا:
- كل الناس أكلوا، وأكلت أنا مثلهم.
- ((كل الناس أكلوا، وأكلت أنا مثلهم)) انظر إلى هذا الكلام! هل معدة المسلم مثل معدة الكافر؟
- وما الذي يدريني، أليست المعدة معدة؟
- معدة الكافر ضخمة وسيئة مثل معدة الخنزير. لا تفرق بين الحلال وبين الحرام تأكل ما تجده. أليس لهذا السبب يكون شكل الكافر مثل الخنزير؟ أما أنت فمسلم.
كلنا ننظر إلى عثمان ونضحك. عثمان أيضاً يضحك.
وبينما نحن هكذا نستمع إلى كلام مصطفى آغا، الذي يبدو مضحكاً أحياناً، جافّاً أحياناً أخرى، إذا بروسيٍّ منهك يقترب منه، زاحفاً، عندما اقترب الروسي منّا قليلا قام الأومباشي مصطفى وأخذ يأمر ((جودت)) الذي يجلس بجواري ويقول له:
- خذ مكانك إلى يمين عثمان، يا جودت، واحمِ المريض، فالمطر قد أوشك، والروس يلحقون بنا.
ثم يقول للروسي المقترب منا:
- إلى الوراء توفاريج! إلى الوراء. ألا ترى أن ليس لك مكان هنا. يقول هذا وهو راقد على الأرض، ثم يهمس قائلاً:
- إن مكانكم إنما هو بجوار حفر الغائط يا قوادون.
تحدثنا في ذلك المساء، طويلاً، عن الوطن، وتذكرنا عائلاتنا وشكونا من الأسر ورثينا لنصيبنا، قال مصطفى الذي يستمع إلى شكوانا:
- هيا يا كوسة! اشكروا الله إن نجانا! هل هذا أسر؟! إننا نشتم الروس في وجوههم. أهذا أسر؟ هذا حرية!
كان في وجه مصطفى آغا، في ذلك المساء، جمال متوحش؟ لكن شفتيه كانتا تتلوى ووجهه القبيح يعبس. كنا نرى قلبه قبل أن نرى تغير وجهه، حتى وهو في الدقائق التي يبدو فيها جافّاً ومرعباً. ومنذ ذلك المساء وقد رأيت قلب مصطفى الرحيم، فأحببته، وكنت أفكر وأقول: ((إن هذا الرجل إنما هو بالنسبة لنا منقذ، وهو شيء أشبه بالولي)).
الظلام يحل بالميدان. أذكر جيداً جدّاً، مصطفى آغا وقد أخرج نصف رغيف من كيسه، وقسمه إلى ستة أقسام. وكان نصيبه أصغر من نصيب كل واحد منا. علقت عيناه عندما كان يأكل خبزه بالروسي الذي جاء إلينا منذ حين، وكان ينظر دون أن ترمش عيناه إلى فم مصطفى. لم يلتفت مصطفى إلى يمين أو شمال، وإنما قام ونهض بعد أن حدّث نفسه بأشياء. ذهب إلى الروسي وأعطاه خبزه الذي كان يأكل منه. لكن الروسي المسكين يخاف ولم يكن يجرؤ على مد يده إلى الخبز الذي في يد مصطفى. قال له مصطفى بصوت مرتعش:
- خذ.. خذ.. ولا تخف.
رويداً رويداً مدّ الروسي يده، وأخذ الخبز وضغطه على صدره، واختفى في الظلام. عاد مصطفى إلى مكانه. جلس. أخذ رأسه بين راحتيه واستغرق في تفكيرٍ عميق.
لم يمطر المطر الذي انتظرنا هطوله تلك الليلة.
كان الميدان مظلماً وصامتاً. وكان القمر الذي يظهر أحياناً من بين السّحب الرصاصية اللون، ينثر أضواءه على بحر الأسرى وهم يئنون.
كان لعثمان المريض، وجهٌ رقيق، ومتحضر عنا جميعا. ربما يبدو كذلك لأنه مريض. استيقظ حب عثمان في قلبي في ذلك المساء. ذهبت ونمت بجواره وبمنتهى الهدوء قلت له:
- هل نمت يا عثمان؟
- أهو أنت يا حضرة الملازم؟
- أنا.
- لا أستطيع النوم. الجو مختنق لكن المطر لن ينزل. انظر إلى السحاب إنه يتفرق ويذهب.
وسكت. كان ينظر بعينيه الواسعتين إلى السحاب الرصاصي.
- أيمكن أن تعطيني معلومات عن مصطفى آغا، يا عثمان؟
لم يتكلم عثمان في البداية، بل حتى لم يتحرك، ولم يهتز فبدا كأنما لم يسمع سؤالي.
- عثمان!!
لاحظت الدموع الظاهرة في طرف أهداب عثمان الطويلة السوداء. لاحظتها في ضوء القمر وهو يتخلص من السحب الرصاصية. ثم، وبعد قليل، أخذ عثمان يتكلم بصوت بدا مخنوقاً.
- معلوماتي.. إنه من آق مسجد. ويطلقون عليه اسم الأومباشي مصطفى الآق مسجدي نسبة إلى بلدته.. أحضرني إلى هنا، قرمجاكي..
لم يكن مصطفى آغا يتحدث عن نفسه قط. لكن جودت حكى لي عنه. في الصباح سيكون هناك بجانب الأبواب القريبة ازدحامٌ كالمحشر. آلاف الأسرى ينتظرون الصباح بجوار تلك الأبواب. يأتي الألمان في الصباح ويأخذون مائة بل مائتين من بين آلاف الأسرى ويسوقونهم إلى الخدمة. وعند عودة هؤلاء في المساء، تلقي النساء الأوكرانيات الخبز عليهم، السعيد منهم هو الذي يعود بخبز، والتعيس هو الذي لا يعود بخبز. لم أكن أعرف هذا إنما حدثني به جودت أيضاً.. ذات يوم، استطاع مصطفى آغا أن يخرج للعمل. مصطفى يستطيع أن يقوم بنفسه بعمل عشرة أشخاص. دهش الألمان كثيرا لما يستطيع مصطفى القيام به من عمل لدرجة أنهم الآن، وكل صباح، يأتون إلى المعسكر ويأخذون مصطفى للعمل. وعندما يقترب المساء يعبئون كيسه بالخبز. وفي كل مساء، يطعمنا الخبز الذي يكسبه وكأنه يطعم أطفاله. يفكر فينا أكثر مما يفكر في نفسه.
سكت عثمان، ولم أثقل عليه
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha