نترك عربات نقل الذخيرة التي تحترق ونتجه نحو برفومايسك. يأتي المساء، أسير بجوار شيشكوف. وجهه جامد حتى إنه يبدو مخيفاً لا أجرؤ حتّى على بدء الحديث معه. القمر من فوقنا ينظر إلينا. ومن بعيد، وفي صمت الليل وسكونه نسمعُ احتكاكَ حديد، وصوتَ بندقيّة. نتقدّم. أرى كلّ نظرة من نظرات ماريّا. وكأنّي بمفردي تحت القمر أسمعُ كلّ كلمة من كلماتها. أريد أن أعود إلى الخلف، إلى ماريّا.
يقف شيشكوف؛ وكان يسير في المقدّمة. ينظرُ إلى الآفاق ناحية الغرب. هناك حمرة تختلط بالأدخنة السّوداء في الأفق. يقول شيشكوف:
- برفومايسك تحترق. والكلاب في كلّ مكان.
يهمس بهذا إلى نفسه يحدّثها به. أحسّ بآلامه الداخليّة المميتة تنطبع في صوته. نتقدّم أكثر. أخرج الآن إلى طريق إسفلتي يضيئه القمر. نصل إلى غابة سوداء. نرى ثلاث عربات نقل بعيدة عنّا بما يقرب من خمسين متراً. نتقدّم ناحيتها لم يبقَ بيننا وبينها إلّا مسافة عشر خطوات. وإذا بصوت، صوت شاب يزأر:
- قف! مَن أنت؟
- أمين.
- مَن هناك؟ أجِب! سأُطلقُ النّار.
شيشكوف لا يجيب. عندما يرى الديدبان النوبتجي مجموعة جنود أمامه، لا يتحرّك كثيراً. يسأله شيشكوف:
- كم رقم الفصيلة؟
- الوحدات الصحيّة التابعة للواء السابع والخمسين مدرّعات رابضة في الغابة أيّها الأخ الكوميسير.
- من أين أنتم؟
- قدمنا من برفومايسك.
- المدينة في يد من؟
- عند خروجنا منها كانت النيران تلتهم المدينة، أيّها الأخ الكوميسير، ولا أدري حالها الآن. كان يوم أمس كلّه جريحاً.
نتقدّم نحو الغابة، لا نحسّ بأيّ أثر للحياة مطلقاً قبل دخول الغابة. المكانُ صامتٌ وساكن. ثمّ رويداً رويداً نسمعُ أنّاتٍ عميقة، وأحاديث قصيرة، وهمسا وكأنّ أرواحا في مقبرة موحشة، يتحدّث بعضها إلى بعض. رويداً رويداً يداخلني الخوف. أريد الخروجَ من الغابة، أضغط خطواتي. لكن عندئذٍ أسمع من بعيد صوتَ أنين. أقف وأستمع ومن بين عدّة همسات وأصوات ولا أدري كيف ولماذا يخيّل إليّ أنّ ذلك الصّوت يناديني؟ وبدون إرادةٍ منّي أدخلُ الغابة وأسير في اتّجاه ذلك الصّوت. وبين حين وآخر أقف وأستمع. وبعد انقطاع أصوات أقدام شيشكوف وجنوده من على الطريق الإسفلتي، أبقى تماماً بين أنين الجرحى والمرضى. أمامي مستشفى عبارة عن خيمتين. أمام الخيمتين كثيرٌ من الجرحى. يرقد بعضهم بلا حراك. ثمّ ترى هل ماتوا؟ جنديّان يسيران بين المرضى، وبين حينٍ وآخر ينحنيان على الجرحى، ثمّ يهمس بعضهم لبعضٍ بشيء. يدخلان الخيمة ويخرجان. أبحث عن الصوت الذي كان يناديني منذ قليل. لكن الأنّات، من الصّعب تفرقة بعضها عن بعض وتمييزها فهي تتشابه. وأخيرا وعندما قرّرت الخروج من الغابة. سمعت صوتاً من خلف الخيمة يقول:
- الله، اللـ...ـه!
انطلقت من على الجرحى إلى ما وراء الخيمة. كنتُ أحاول تبيّن وجهه في الظلام وعندما كنت أنحني عليه، نظر إلى عيني وهو ما يزال يذكر الله.
- أأنادي الطبيب، يا أخي.!
كان ينظر إلى عيني بعينيه الواسعتين الملتهبتين، كان في الخامسة والأربعين وربّما الخمسين من عمره. كان يعضّ على شفتيه المرتعشتين. أغلق عينيه وقال:
- لا يا عزيزي! ماذا في يد الطبيب أن يفعله. أنا طبيب. طلقتان اخترقتا بطني. هل أنتَ مسلم؟ اسقني يا أخي في الله!
سقيته ماء. كان يصارع الموت، ووجهه كان أبيض، شديد البياض، وكأنّه الجير. حاول أن يقيم رأسه. انحنيتُ عليه قليلا. سألني:
- من أين أنتَ يا عزيزي؟
- قرمي؛ من القرم.
- قرمي؟ أنا قازاني؛ من قازان.. لا تنزعج منّي. سأقول لكَ شيئا.. هل تسمعني؟
ثمّ تمدّد. أمسكني من قميصي، شدّني نحوه وهمس في أذني بصوتٍ مخيف، وقال:
- لا تحارب.. نحن يا أخي دماءٌ مسفوكة في سبيل هذه الأمّة الظالمة.
استمرّت عيناه الكبيرتان داخل عينيّ، وقال:
- أنا من قازان، أنا تتاريّ من التتار. تعلّمتُ في قازان وأصبحتُ طبيباً. اسقني ماء يا أخي. في عام 1935 أخذوني. أبعدوني عن زوجتي وطفلي وأحبّهما أكثر من روحي، حبسوني. ألقوني في السّجن. لماذا؟ لا أعلم. هلهلوني في سجون جي. ب. يو. وقبل شهرين أخذوني من السجن وأحضروني هنا، اخترقت رصاصتان ألمانيّتان بطني. أعرف أنّ الطبيبَ لن يفيدني، يا أخي! استمع إلى ما أقوله لك. دعكَ من الحربِ ولا تحارب.
كان وهو يقول لي هذا، يمرّر يده اليمنى الجريحة من صدره إلى عينيه، ومن عينيه إلى صدره. أصوات طائرات من بعيد. ما زال الطبيب يقصّ عليّ ما عاناه، أمّا أنا فكنتُ أُصغي سمعاً إلى أصوات الطائرة المقتربة من الغابة، أنّات الجرحى حولنا. صوت الطبيب انقطع فجأة. سمعت صوتَ أزيز طائرات؛ أثناء انحنائي لكي أُعطي الطبيبَ المجروحَ ماء، أعقب هذا صوتُ انفجارٍ مدهش جعل الغابةَ تئنّ. حدثَ انفجارٌ بعيدٌ عنّا إلى حدٍّ ما. وبعد أن ذهبت الطائرات، رفعتُ رأسي، ونظرتُ إلى الطبيب القازاني كانت عيناه منغلقتين. اختفى وجهه الذي كان يبدو منذ قليلٍ مضطرباً، وتحوّلَ إلى وجهٍ أكثر جمالا. وبصوتٍ خفيضٍ قلت:
- ذهبتِ الطائرات، ونحن الآنَ في أمنٍ وسلامة.
ولم يُجب الجريح. كان بلا حراك، بلا حِسّ وكأنّه غاضبٌ منّي أخذتُ يدَهُ ووضعتها بينَ كفّيَّ قائلا له:
- أتريدُ ماء يا أخي؟
وإذا بورقةٍ خشنة، وجدتُها في يدي عرّضتها للضوء لكي أعرف ما فيها. إنّها صورةُ طفل، لعلّه ابنه. ورويداً رويداً قمت واقفاً على قدمي. وخرجت من الخيمة سألتُ الجنديَّ الذي بالخارج عن طبيب. قال لي وهو يشير نحو خيمة:
- في الخيمة.
دخلتُها وألقيتُ التحيّة، وقلت:
- الملازم طوران، من القيادة.
فإذا بصوتٍ غليظٍ يقول:
- هاها! من القيادة!.. اقترِبْ منّي. أيّ خبرٍ أتيتَ به؟
فهمتُ من لهجته أنّه طبيبٌ كرجي من بلاد الكرج. نهضَ واقفاً من على صندوق الذخيرة الذي كان يجلس عليه. وأوقد الشّمعة الموجودة في علبة الصّفيح المعلّقة على عامود الخيمة. كان رجلاً متوسّط الطّول، بديناً بعضَ الشّيء حلّت رهبة اليوم كلّه في وجهه الآن، وجهه الذي كان جميلاً فيما مضى.
- اجلسْ وقُصَّ عليَّ أيّها المُلازم، أيّ أخبار جئتَ بها؟
- لم أُحضر أخبارا أيّها الطبيب الصّديق، أريد أن أعرف في أيّ وقت يمكنُ دفنُ الموتى؟
تغيّرت نظراته فجأة. قطّب حاجبيه، احمرّ وجهه، وصاح:
- موتى! موتى! ألا يوجد مَن يفكّر في الحياة؟! هل تعرف كم ميتاً في هذه الغابة؟ سبعون فقط من مائتي جريح، مَن يدفن مائة وثلاثين ميتا؟ تحت إمرتي ثلاثة جنود. ثمّ تظهر لي أنت لتسألني متى يُدفن الموتى؟! الموت! كانوا أحياء، ماذا يمكن أن يُعمَلَ لهم؟ لا قطن، لا ضمادات، لا دواء، ولا حتّى خبز! أتسأل القيادةُ وتهتمُّ بأحوالنا بهذا الشّكل؟ القيادة!! يا لكم! هؤلاء الذينَ لا يعرفون شيئا غير المرور أمام المجموعة وإلقاء الأوامر! عجباً متى يدفن الموتى؟ إنّ هذا ما يجبُ عليّ أن أسألكم عنه. إنّ مهمّتكم قتل النّاس. أمّا عملي أنا، فليس قتل النّاس ولا دفن الموتى، وإنّما إحياء النّاس. أنا أقوم بأداء عملي بأقصى ما أستطيع. هنا جرحى لم يدخل الطعام جوفَهم منذ أسبوعين. أنا أنتظر منكم العونَ والمساعدة. أعيشُ منذ يومين وسط هذه الغابة أعيشُ بين الأنّات.
استمرّ انفجاره هذا فترة. شتمَ فيها القيادة. ثمّ هبط على الصندوق وأفسح لي مكاناً بجواره.
- اِجلسْ أيّها الملازم. تبدو وكأنّك شابٌّ رحيم، لا تحمل كلامي على أنّه موجّهٌ إليك. إيّاك! كيفَ عثرتَ علينا؟ وما أخار الجبهة؟
لمَ يبقَ أيّ شكٍّ في أنّ الطبيب إنسانٌ طيّب القلب. التصقتُ بحفّة صندوق الذخيرة. أخرج الطبيب الكرجي علبة الدخان من جيبه، ولفَّ سيجارة.
- برفومايسك في يد العدو. هل هذا صحيح؟
- لستُ قادماً من برفومايسك أيّها الطبيب.
نظر إلى وجهي مندهشاً:
- ألم تقل من القيادة؟!
- قلتُ من القيادة، لكن لم أذهب إليها منذ أسبوعين. أينَ هيَ؟ لا أعلم. كنّا أمس نمرُّ من هنا في المساء، وجدتُ أخي بين الجرحى. لم أتركه حتّى الصّباح. لكنّ جرحه كان شديداً، لم يستطع التحمّل؛ فمات.
تغيّر وجه الطبيب فجأة. انتهى ذلك الرجل الذي كان منذ قليل متوتّر الأعصاب، ينفث النار من فمه وحلَّ محلّه شخصٌ آخر. أخذ وجهه بين كفّيه وقال بصوتٍ خفيضٍ جدّا، وهو ينظرُ إلى طرف حذائه المتّسخ:
- سامحني أيّها الملازم.
وبعد قليل رفع رأسه وأشار إلى ناصية الخيمة:
- هناك مجرفة خذها. وادفن أخاك، وهناك جنديّ أمام الخيمة قل له أن يساعدك.
أخذت المجرفة. وخرجت من الخيمة. وكان الصّبح في الخارج، في بدايته. وفي مكانٍ قريب من الطريق الإسفلتي، حفرتُ قبراً بين شجرتي بلّوط. وعندما أنزلنا - أنا والجندي - الجثّة إلى المقبرة، جاء الطبيب الكرجي وقال:
- لقد جاؤوا بالمسكين، أمس. وبجوار خيمتي، تحدّث كثيراً عن أسرته. ثمّ قال ما بوسعه أن يقوله. شتمنا كلَّنا.
لم أستطع التحكّم في دموع عيني عندما كان يُنزَلُ إلى القبر وصورة ابنه على صدره. كانَ هذا الطّفلُ في أعماقي يصيح بلا انقطاع قائلاً: ((بابا! بابا!)) يبدو أنّني كنتُ أفهم وللمرّة الأولى معنى الأبوّة. دفنّاه. وقبل أن نبتعد عن هناك دلفت إلى خيمة الطبيب وقدّمتُ له شكري. قال وهو يضغط على يدي مصافحاً:
- هل لك أخٌ غيره أيّها الملازم؟
قلتُ:
- نعم، لكنّه ليسَ في الجيش، إنّما في المنزل، بجانبِ أبي وأمّي. إنّ الإنسانَ الذي دفنتُهُ ليسَ إلّا أحد مواطني بلدتي. لم أكن أعرفه. وليست لي به صلة. أيّها الصّديق الطبيب. لم أرغب في تركه دون دفن.
ضحكَ الطبيبُ ضحكة نوّرت وجهه، وقال وهو يضعُ يدهُ على كتفي:
فلتحْيَ أيّها الملازم! أُحبّكَ الآنَ أكثر.
افترقنا. دخل الطبيب إلى خيمته. وصعدت أنا إلى الطريق الإسفلتيّ وأخذتُ طريقي من جديد نحو برفومايسك.
عندما وصلتُ إلى منطقة القيادة. كانت شمسٌ محرقة تلفح المكان. وعلى جانبي الطريق كانت جموعٌ كثيفة من الجنود تتجمّع، وكان الجنود جميعهم يسودهم الضعف لحاهم طويلة، ملابسهم جميعاً متربة، يعلوها الطين والدّم. الضبّاط يصيحون بالجنود ويشتمونهم. بعضهم كان يصدر الأوامر وفي يدهم المسدّسات. كان منظرهم جافّاً لدرجة أنّني لم أستطع أن أسأل عنهم إيفان ألكسندروفيتش وبينما أبحثُ في هذا الزّحام عن وجهٍ أعرفه؛ لمسَ أحدُهم كتفي. كان رجلاً قليلَ شعرِ اللحية، نحيفاً، متعَباً، شفتاهُ متدلّيتان، غريبا. نظرَ إلى وجهي وهو يضحك:
- لم تعرفني يا آغا؟ أنا قلبيج باي. من فصيلة الملازم سليمان كرانسوي. هل تذكّرت؟
- تذكّرت، تذكّرت، أينَ مبنى القيادة؟
أشار قليج باي إلى مدفعين كبيرين في الناحية الأخرى، على بعد حوالي مائتي متر.
- بجانب هذين المدفعين.
ثمّ وبإحساسٍ عميقٍ، قال:
- ألا تأتي معي يا آغا قبل أن تذهب إلى القيادة؟ أصدقاؤنا هناك. كلّهم مسلمون. أنتَ مُتعَب، وبذلك تكون قد استرحتَ قليلا.
أوافقُ، ونسيرُ سويّاً، بعدنا عن ازدحام الجنود، خلّفناهم وراءنا، نتقدّم عبرَ ماء، وبعدَ عشر دقائق نقترب نحو مكانٍ كثير الدّغل، أرى بين الأدغال حوالي عشرة أشخاص أو ثمانية. يقف بعضهم على قدميه، والبعض الآخر، يقف على ركبتيه، يقف قليج باي ويقول:
- أليس اليوم هو الجمعة يا آغا؟ إنّ صديقَنا آق صقال لا يعترف بالجبهة ولا بغيرها إنّه يقيم الصلاة بمجرّد سنوح الفرصة. اِنتظِرْ هنا.
أجلسُ على الأرض، وأسأل قليج باي:
- من هو صقال، هذا الذي تحدّثني عنه؟
- هذا الذي هناك، الطويل القامة، إنه أوزبكي من بخارى، رجلٌ حنون ولكن.. انظُر إلى المصلّين بين الأدغال، يملؤون بأصواتهم الهامسة قلبي بأشياء.. أشياء أُحسّها فقط. لكنّي لا أستطيع فهمها، ولا أستطيع شرحها، أريد أن أنهض من المكان الذي أجلس فيه وأذهب بجوار هؤلاء الناس، أريد أن أجري إليهم، أريد أن أُفرغ أمامهم كلّ ما في قلبي، أعيش معهم، أكون واحداً منهم، يُخيّل إليّ كأنّهم معي في الحياة دائما. هناك قوّةٌ في دعائهم. هذه القوّة تنتقل إليّ. إنّهم يعيشون مع الله وأنا أيضاً أريد أن أعيش وأنا أذكر الله في كلِّ نفَسٍ من أنفاسي. إنّ اسمَ الله الذي يصدر من أفواه ثمانية جنود أو عشرة من هؤلاء الأوزبكيّين في نفَسٍ واحد وهم يصلّون بين الأدغال، يُبيّنُ لي لماذا سأعيش وفي أيّ سبيلٍ سأحارب.
كان قليج باي بجواري يلفّ سيجارة. سألته:
- ألا تخافون وأنتم تصلّون هكذا خفية بينَ الأدغال؟
- يقول آق صقال: سِر وأنتَ تذكرُ اسمَ الله. سلّمْ نفْسَكَ لله، ولا تخَفْ بعدَ ذلك. فالله يحميك. ولا شكَّ في هذا يا آغا.
أريدُ أن أفهم كلّ كلمةٍ تخرج من فم قليج باي، كنتُ أودُّ أن يتكلّمَ أكثر. قال قليج باي يهدوء:
- أنا شابٌّ يا آغا، لكنّ ذنوبي كثيرة. أنتظر فرصة.
نظرتُ إلى هؤلاء الأوزبك الذين يصلّون وهم بين الأدغال، خطر ببالي أنّ آق صقال هذا الذي يتحدّث عنه قليج باي، وليٌّ من الأولياء. انتهت الصّلاة. جلسوا كلّهم على الأرض. سادَ الجوّ سكونٌ عميق. ثمّ أنشدوا جميعاً وبأصوات حزينة رقيقة صادرة من قلوبهم، نشيد:
ماذا حدثَ لكِ يا تركستان الجميلة؟
ذبلت الورود في غيرِ زمان الذّبول!
لا أعلم لماذا لا تُغنّي الطيورُ في حدائقكِ؟
آه.. في حدائقك!
وجدت روحي - بهذا النشيد - ترغب في أن تنفصلَ عن جسمي، وتطير بعيداً، بعيداً، إلى حدائق تركستان الذابلة، الجافّة، العطشى.
* * *
وجدت شيشكوف والضبّاط الآخرين بجانب صناديق الذخيرة المكدّسة بين المدفعين الضخمين . مازال في وجه الكوميسير , التعبير المر الذي كان عليه بالأمس . يترك الضباط بين الحين والحين الحديثَ , وينظرون إلى الجنود الموجودين في المكان . هؤلاء الجنود الذين أخذت أصواتهم تعلو وترتفع , يشتمون , يتشاتمون . أصوات المدافع تأتي من بعيد . تسمع انفجارات متقطّعة . أعداد الجرحى الذين يرقدون على الدبابات التي جاءت تتزود بالبترول , تكفي للدلالة على حالة الجبهة . الجنود المصابون بجروح ثقيلة , يُحملون إلى الجنوب , بسيارات النقل الكبيرة . أما الجرحى من ذوي الإصابات الخفيفة فيتركون فرقهم في الجبهة ويهربون . لذلك يقوم الضبّاط السياسيون والمسدسات في أيديهم بسب هؤلاء الجرحى وإعادتهم إلى الجبهة ثانية .
كانت المباحثات بين المكتب السياسي وبين الضبّاط ذوي الرتب الكبيرة تستمر طويلاً , ساعات وساعات . على كل حال يبدو الجميع متعبين مرضى . يفكّر شيشكوف أن يهجم على برفومايسك المحتلّة فوراً بفرقتنا الموجودة بجوارها , وأن يخف لمساعدة الفرقة الممسكة بالجبهة . كان قائد الفرقة والضباط الكبار الآخرون ضد فكرة شيشكوف هذه . أذكر أن قائد الفرقة يعترض على هذا قائلاً : إن الجنود - منذ أيام- جرحى وعطشى , فما بالك بحرب العصابات . ولا سيّما أن من بين الجنود من ألقى السلاح .
كان الجنود يستطيعون استحصال قوتهم اليومي بأخذ مايجدونه في أيدي نساء أوكرانيا الفقراء . قبض جنود منظّمة الشرطة السريّة , هذه المرة , على العساكر الذين تركوا فصائلهم وفرقهم من أجل البحث عن الخبز في القرى , وبأمر من ديوان الحرب أعدموهم فوراً بالرصاص أمام أعين جنود الفرقة . ضبّاط الفرقة كانوا يعرفون هذا جيّداً , ولكن , ماذا بأيديهم أن يفعلوا . إنّهم أيضاً من لازمهم إلى لوائهم , كانوا ينتهزون الفرصة للاختفاء عن أعين منظمة الشرطة السرية التي لا يغيب عنها شيء قط , يحاربون بهدوء وينتهزون الفرصة للهروب إلى جانب العدو قبل أن يموتوا برصاص أمتهم . أمّا هؤلاء الضبّاط الذين يجدون في أنفسهم الجرأة على نقد ضباط المكتب السياسي , يصبحون أحب الضباط وأكثرهم احتراماً في صفوف الجنود . وكان هذا من الأمور المألوفة .
يطرح الآن قائد الفرقة ضرورة الانسحاب بكل الفرقة فوراً إلى نواحي الكسندوفكا وانتظار العدو هناك بكامل الاستعداد لملاقاته . الضبّاط الآخرون من ذوي الرتب الكبيرة أيضاً كانوا يؤيدون هذه الفكرة . وكان يبدو أن شيشكوف وضبّاط المكتب السياسي الذين معه لن يستطيعوا الإصرار كثيراً أمام فكر الأغلبية. بدأ التجهم البادي في وجه إيفان الكسندروفيش , يزول رويداً رويداً , وأخذ وجهه في الانبساط . حدث أثناء ذلك شيء غير متوقع . سمعت أصواتاً مضطربة وصياحاً صادراً من داخل الازدحام في الجانب الأيمن . ظهر ضابط شاب , فجأة , بعد أن اخترق الزحام , بملابسه وقد تمزّقت تمزّقاً ظاهراً , والدم واضح عليه . كانت حالته رهيبة لدرجة أحدثت رعشة باردة في سلسلة ظهري الفقرية . وقف هذا الضابط بين كتلة الجنود وبين الضبّاط رافعاً يديه ويصيح بصوت متوحش قائلاً :
- اخترقونا ! لم تعد هناك جبهة . داسوا على أجسادنا بدباباتهم !حطّموا عظامنا !
وخرّ واقعاً على الأرض , وآخذ يئن ويقول :
- آه يا أمي ! ساروا فوق أجسادنا !
كنت أحاول النظر في وجه الضابط الجريح . أسرع الضبّاط نحوه , رفعوه من الأرض, وأخذوه بعيداً . بعد ذلك بدقائق معدودة , وبينما أنا واقف بجوار المدفع , إذا بيد تلمس كتفي . التفت كي أرى , فإذا به شيشكوف . قال لي :
- تعال معي ياطوران .
ابتعدنا عن الزحام . وسرنا في اتجاه الميدان الذي اصطفت فيه سيارات النقل , والمدافع , والدبابات . توقّف شيشكوف قبل الوصول إلى الماكينات . ووضع ذراعه على كتفي , وقال :
- خذ سيارتي واذهب فوراً إلى الكسندروفكا . لقد اخترقت الفرق الألمانية الجبهة . وإذا تمكّنوا من الوصول إلى الكسندروفكا قبل حلول المساء , فسيعبرون بسهولة إلى الجانب الأيمن من بوك . خذ معك بضع صفائح بترول . واحرق الجسر الموجود في الكسندروفكا . ولكن بسرعة ! كم رجلاً تحتاج ؟
- يكفي اثنان
- خذ عشرة , لمواجهة أي ظرف طارئ . كل دقيقة ذات قيمة . أسرع بالحركة. وفي أثناء ركوبنا السيارة نصف النقل , جاء قليبج باي وهو يجري في اتجاهي وكانت عيناه الصغيرتان تعكسان الفرحة .
- خذني معك يا آغا .
- وأصدقاؤك ؟
- وأنت ! ألست بصديق ؟
- هيّا , اقفز .
أين هو الآن ياترى ؟ هذا الرجل الذي افتقدته في الكسندروفا . وجدته في معسكر أسرى تركستان بعد عام واحد . أمّا بعد ذلك .
الكسندروفا تبدو كأنها صامتة مهجورة . تبدو السماء صافية زرقاء بعد مطر أمس . كانت الروائح تصعد باردة من الحدائق الواقعة على ضفّتي النهر . وقفنا في مكان قرب الجسر . ينظر الأطفال والسيدات المسنّات إلينا , من نوافذ المنازل المجاورة , بعيون مفتوحة مندهشة . خرج رجل كبير السن أبيض اللحية من أحد البيوت واقترب منّي ؛ عندما كان الجنود يسكبون البترول على الجسر , وقال :
- ألن تحرقوا الجسر يا بني ؟
قلت له :
- سنحرقه يا والدي .
- منذ ثمانين عاماً وهذا الجسر قابع في مكانة . سالت من تحته مياه تكفي لملء بحار . فاض النهر وتجاوز ضفّتيه , لكنه لم يقو على هدمه .
- إذا كان النهر قد عجز عن هدمه , فالنار ستحرقه .
قلت للجاويش واصل ايف , و أنا ألتفت إليه :
- أوقد النار فيه ومن هنا .
اقترب مني الرجل المسن قليلاً وقال :
- قف . قف دقيقة واحدة , فالجسر لنا حيوي يا ولدي .
- نحن الآن في حرب يا والدي . إذا انتهت الحرب , سنأتي , لنبني لقريتكم جسراً جديداً . ولن يكون خشبيّاً مثل هذا , سيكون جسر جديد , لأحفاد أحفادك .
- حسنا يا ولدي , لكن الجانب الآخر , فيه حيوانات ترعى . لابد من سوقهم من هناك إلى هنا , اسمح لي لكي أقوم بتعديتهم .
- مستحيل يا والدي , فلم يعد هناك الوقت لهذا .
تدخل الجاويش واصل ايف في الحديث قائلاً :
- الحيوانات يا جدّي , ملك الكولخوز .
- فلتكن ملك الكولخوز , إن هذه الحيوانات , هي التي تساعدنا على الحياة , حتى اليوم .
- العجوز على حق يا واصل ايف , خذ شخصين واذهب , وسق الحيوانات إلى هذا الجانب .
ذهب واصل ايف . وساق الحيوانات إلى الجانب الذي نحن فيه . أمّا نحن , فسريعا أشعلنا النار في الجسر . وبعد خمس دقائق أو عشر , ارتفع الدخان الأسود من الجسر الخشبي نحو السماء . واجتمعنا نحن بدورنا أمام منزل العجوز , وعندما بدأت مع جنودي أكل الزبادي في الحديقة , ظهر عدّة فرسان من بين المنازل المواجهة وانطلقوا نحو الجسر الذي كان يحترق بسرعة البرق . قمت واتجهت ناحية الجسر , لكن ضابطاً برتبة كبيرة يركب صهوة جواد قطع الطريق علي , قبل أن أصل إلى الجسر .
احمر وجهه احمراراً ظاهراً وركزّ عينه الحمراوين على عيني , وسألني :
- من أحرق الجسر ؟
- أنا .
امتقع لون وجهه , قطّب تماماً ما بين حاجبيه , وصدرت عن شفتيه كلمة واحدة فقط هي:
- أطفئها !
- أحرقته بناء على أمر قائد الفرقة السابعة والخمسين , أيها القائد الصديق .
- اطفئها يا ابن الكلب ! وإذا لم تفعل , سأدوس على ظهرك بالحصان , وأنقلك إلى الناحية الأخرى وأنت هكذا .
همس قليج باي وهو بجواري , قائلاً :
- ديوّث !
أمرت رجالي أن يطفئوا النيران . وأسرعت إلى القرية استدعي الناس لمساعدتنا خرجت النسوة والفتيات الحافيات والأطفال من المنازل التي كانت صامتة منذ حين وأسرع الجميع لإطفاء الجسر وبعد ساعتين كاملتين ظهرت دباباتنا . أخذ الجنود الذين قدّموا من الخلف أماكنهم حول المنطقة وامتلأت الكسندروفا الصغيرة , من أولها إلى آخرها بالجنود ووسائل الحرب . أمّا أنا , فسرعان ماوجدت الكوميسير شيشكوف وشرحت الأمر له فقال :
- هذا أمر حسن , سنخرج إلى الجانب الآخر من (( بوك )) لنلتحق بالجيش المنسحب نحو نيقولاييف .
كانت المنطقة مزدحمة ازدحام الحشر , وامتلأت الحدائق بالدبابات وعربات المدافع .
إن الكسندروفا - التي كانت من قبل ساكنة - قد تحوّلت حالتها إلى حال يصعب معرفتها به , فالضبّاط بياقاتهم المفتوحة وعيونهم الغضبى الحمراء يتصايحون . والمشاة وقد أخذوا في حفر الحفر على طول النهر في المنطقة , وفي الخلف أيضاً , وأخذت المدافع مواضعها في الحدائق . كان هناك نظام وانتظام يثيران الانتباه إلى الفِرَق التي تركت مرضاها وجرحها في الخلف . و عند تناولنا لطعام الغذاء إذا بنا نفاجأ بهجوم جوي . لكننا قابلنا الطائرات الألمانية التي كانت تتجه من الأعلى نحو الحدائق , قابلناها بنيران قوية لدرجة أنها عادت إلى الأماكن التي جاءت منها دون أن تلقي قذيفة واحدة من قذائفها . وقرب المساء, أخذت الفرقة في الاستعداد لعبور الضفة اليمنى من (( بوك)) وانكب الجنود على إصلاح الجسر الذي أًصابه الدمار إصابات واضحة . كانت الدبابات والمدافع من خلفها تقف في صفوف استعداداً لعبور الجسر . كنت في الخلف مع القيادة . الله يعلم , ثم أنا , مقدار السرور الذي انتابني عند اتخاذ قرار الانسحاب إلى نيقولاييف . كنت كأني ذاهب إلى القرم. لكنهم أخبروني وأثناء كلامي بأن قائد الفرقة يستدعيني . ذهبت إليه . وكان في غرفة سقفها منخفض , ورطبة . وجدت هناك شيشكوف وقائد الفرقة وبعض ضبّاط آخرين وكان الجميع يحيطون بخريطة . دخلت الغرفة ووقفت بجوار الباب . قال القائد بصوت متعب :
- اقترب أيها الملازم طوران .
واقتربت منه , فقال :
- استمع جيّداً . عندنا مسألة غاية في الأهمّية .
ضحك الكوميسير شيشكوف - وكان على يميني- ضحكة قبيحة وقال :
- اون هوروشي فويتس تاتارين مالوديتس . .
استمر القائد في حديثه .
- اعبر فوراً بمجموعة من العساكر إلى الضفّة المقابلة من النهر . وتحرّك نحو الشمال, وعندما تبتعد عن الجسر بحوالي كيلومتراً , خُذْ وَضَعك . ولا تنسحب إلى الخلف إلاّ إذا جاءك أمر مني ! أفهمت ؟ ! تحرّك فوراً !
- سمعاً وطاعة أيها الصديق القائد .
وبعد نصف ساعة , وبينما أعبر الجسر بمجموعة من الجنود , إذا بي أجد قليج باي على ضفّة النهر .صب نظرات عينيه الضيقتين عليَّ , وكان يضحك . ظننت أنه قادم نحوي, لكنه لم يأت . اختفى وهو يرجع بين الأشجار الخضراء في الحديقة . أحسست بغربة موحشة . كنت أشتاق إلى أحد بجانبي يهمس إليَّ بلغتي الأصليّة !
(( واصل بيف)) يسير بجانبي , نظر إليَّ . بدت في أطراف شفتيه ابتسامة خفيفة . وكأنه يريد أن يقول شيئاً . قلت له :
- ماذا هناك أيها الجاويش !
قال :
- أبداً. . كل ما هنالك أننا نسير كالفلاحين العائدين من حقولهم منهكين .
- أنا متعب .
- وأنا أيضاً . وها هو ذا المساء يبدأ . ماذا لو عقد رجالنا معاهدة مع الألمان , تنص على ترك الطرفين سلاحهما بمجرد أن يحل الظلام , ثم ينام الجنود وينعسون . وفي الصباح يقومون ليبدأوا الحرب من جديد . أليست هذه فكرة طيبة , يا سيدي الملازم ؟
- طيبة ولكن أين . .
- يذهب الجندي صباحاً إلى الحرب , وكأنه ذاهب إلى الحقل . يستيقظ مبكّراً , والدنيا مازالت في عتمة الصباح الأول . يحمل سلاحه ويبدأ إطلاق النار على العدو من الغابة الواقعة في طرف القرية . وأنت أيضاً تذهب إلى العدو, تحارب كل اليوم , ولن تتعب , ذلك كأنك تعلم أن ليس الموت في قدرك . وبعد انتهاء عملك في ذلك المساء , ترقد وتنام نوماً هادئاً .
تدخَّل الجندي الذي يسير على جانبي الأيسر قال :
- لعلّك تفعل مثل الجندي الانكليزي ! تريد أن تشرب الشاي أيضاً أثناء الحرب . تقف وتطلب الشاي .
- إيه ! كيف تفكّر ؟ إن الصينيين يذهبون إلى الحرب بشمسياتهم . قد لا نكون في احترام الإنكليز , لكننا مدنياً مثل الصينيين . ماذا تقول في هذا يا سيدي الملازم ؟ ما دامت الحرب تحرقنا بهذا الشكل , فيجب علينا أن نعاملها مثلما العامل . علينا أن نبدأ الحرب منذ الصباح المبكر , وعلينا أن نقتل - وحتّى حلول المساء - من سنقتله وعلى الذين بقوا على قيد الحياة حتى المساء أن يدعوا سلاحهم ويأخذوا قسطاً من الراحة . أليس هذا صحيحاً ؟ ولكن !
- صحيح يا واصل ايف .
- قل في هذا ما تقوله , أما أنا فسأكتب رسالتين أوضح فيهما كل هذا , واحدة إلى هتلر , والأخرى إلى أبي شنب([1] ) .
وتقدّمنا نحو الشمال , إلى الضفة المقابلة من النهر . لم يكن في ذلك الجانب حديقة . عبرنا - أولاً - من بين الصخور , ثم من بعد , خرجنا إلى مكان مستور . كان في الأمام خمسة بيوت قروية قريبة بعضها من بعضها الآخر , أسطحها من التبن , ولكل منها حديقة. وغابت أشجار قليلة تغطّي المرتفعات الواقعة خلف المنازل. جاء الجاويش واصل ايف وهو يزحف على يديه و ركبتيه . وقال :
- أظن أننا ابتعدنا أكثر من كيلو متر من الجسر , أيها الصديق الملازم .
نظرت إلى الجسر وقلت :
([1]) يقصد ستالين.
عدل سابقا من قبل المدير العام في الأربعاء يناير 29, 2014 11:31 am عدل 1 مرات
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha