نخرج من كرانسوي. نحن الآن على الطريق الإسفلتي. نقف بين تَلَّيْن. نترك السيارة على سفح التل الأيسر، بين الأغصان، ثم نتسلق التل. تل بلا حشائش مقفر. تحت خضرة. وأرض فيها قصب خلف الخضرة. يمتد المحصول خلف المياه الخضراء الساكنة التي تصب قريباً من حقل القصب. اصفرت المحصولات. تهتز السنابل الذهبية، وتموج، كما لو كانت أحياء تموج بفعل رياح خفيفة. الحقل الذي به هذا المحصول يمتد قرابة كيلومترين. ويرتبط من بعد بغابة سوداء. الشارع الإسفلتي يمتد حتى الغابة مثل الجمال التي حثت على ركبها لتستريح. ينظر شيشكوف نحو التلال ويقول:
- هل ترى التل الثالث؟
- نعم أراه.
- إن سليمان وجنوده من المدفعيين خلف هذا التل.
- أين نتوقع هجوم العدو؟
- الأخبار التي أوردتها الطائرات تقول: إن وحدات جيش العدو تتجمع خلف الغابة المقابلة. وبناء على قرارنا الذي اتخذناه بالأمس، اتخذ سليمان، صباح اليوم، موقعه، هو ورجاله من المدفعيين خلف التل.
صمت طويل. ثم يسأل شيشكوف:
- وما رأيك؟
أنظر إلى الحقل الممتد أمامنا، وإلى الغابة، وإلى التلال.
- إنها نقطة بعيدة جداً عن كرانسوي وقريبة جداً من الغابة. ولو كانوا اتخذوا مواقعهم في المكان الذي نتواجد فيه، ألم يكن هذا أفضل؟
- لقد رأينا أنا وقائد الكتيبة أن هذا المكان أقل خطراً، نظراً لقربه من الطريق الإسفلتي. هناك مسافة أكثر من كيلومتر ما بين التل الذي فيه سليمان، والغابة. ثم هناك ذخيرة تكفي لضرب العدو بالنيران حوالي ثلاث ساعات. الحقل مستو تماماً مثل الكف. سليمان في الشمال ورجالنا في سفوح كرانسوي وبالتالي لا يستطيع ألماني واحد أن يرفع رأسه من تلك الغابة، يا طوران، وعلى فرض أنهم رفعوا رؤوسهم، فإنهم لن يستطيعوا ذلك إلا بقدر الارتفاع المرسوم أمام الغابة. بعد ذلك لن يستطيعوا. والألمان ليسوا حمقى إلى هذا الحد. ولا أعتقد أنهم سيدخلون الحقل، ولن يهاجموا كرانسوي ولو حدث أن هاجموها لكان أحسن لنا، لو فعلوا هذا لحصدناهم، مثلما نحصد الزرع. الهدف هو حبس العدو أسبوعاً داخل الغابة، ومن ثم في خط بوج.. وإني لواثق بأن دباباتنا الثقيلة ستصل في حدود هذا الوقت. يلزمنا دبابات. دبابات ليس مثل دبابتك وإنما دبابات السبعين طنّاً. دبابات تي 34.
ركبنا السيارة لنعود إلى القيادة. ازدحام أمام الدار الصغيرة الواطئة؛ ذات السقف التبني. الضباط وقد بللهم العرق يدخلون ويخرجون منه. لكن الضباط الجرحى في صمت. إنهم عاشوا الحرب بكل مروعاتها. ضاقوا بالدنيا وبالحياة، يدخنون سجائرهم كأنهم بشر بلا هدف. ندخل الدار. الضباط ذوو الرتب الكبيرة يتباحثون في أشياء بأصوات خفيفة وهم أمام الخريطة وأقلامهم في أيديهم، هاتف موضوع فوق صناديق الذخيرة، على اليمين، وهناك كان جنديان يتلقيان - عن طريق الهاتف ودون توقف - الأخبار ثم يبلغونها.
يتقدم الكوميسير شيشكوف نحو الهاتف. أقف أنا بجوار الباب. أنظر إلى شيشكوف وهو يتحدث بالهاتف. وبعد قليل، أشار إليّ بيده، يستدعيني بجانبه. أذهب إلى شيشكوف، يمد بالهاتف نحوي ويقول:
- سليمان على الهاتف. يريد التحدث إليك.
أخذت الهاتف من يد شيشكوف، ووضعت السماعة على أذني، صوت سليمان الصديق يأتي عبرها. وشيشكوف يقف أمامي وينظر لي دائماً، وخلف نظراته - مرة أخرى- يبدو لي وكأني ما يخبئه من مقصد خائن.
- معذرة أيها الرفيق المسؤول السياسي شيشكوف فإن سليمان يتحدث معي بلغته الأصلية.
يضحك شيشكوف ويقول:
- كوفوري! كوفوري!([1])
ثم يتركني ويذهب ناحية الواقفين أمام الخريطة.
يدخل صوت سليمان في أذني.
- أهو أنت يا صادق؟ لماذا لا تتكلم؟
- أنا. كيف حالك يا سليمان؟ كيف حال مواطنينا؟
- كلهم بخير وهم بجانبي الآن. إنهم يتحدثون عنك.
- فتح علينا الألمان النيران بالأمس، وعلى دباباتنا أيضاً: النيران. لعل الرفيق المسؤول السياسي حدّثك بهذا. وعدتُ بسبعة من رجال الدبابات إلى القيادة.
- يا لك من فاشل! شرح لي المسؤول السياسي الأمر لكنه لن يستطيع أن يأمر بحبسك. إنك ضابط جيد كما يقال. الكوميسير لا يجد لك ذنباً وإنما الذنب ذنب الذين دفعوا بك أمام مدافع العدو. لا أدري لماذا يهتم بك المسؤول السياسي شيشكوف في هذه الأوقات الأخيرة؟
- أصحيح؟
- نعم، أيها السيد الشاعر!
- ولماذا الشاعر؟
- شبابنا يطلقون عليك لقب الشاعر بعد درس اللغة الذي أعطيته لي في آق قرمان.
- سليمان! ألا تدري أن العدو قريب جداً من هذا المكان الذي أنت فيه؟
- لا تخف! لا تخف. يكفي أن يصدر أمر القتال لأسوّي الغابة بمن فيها من الوحدات الألمانية. هيا إذن، فيجب علي أن أذهب.
خرج القادة الذين كانوا أمام الخريطة واحداً إثر آخر من الغرفة. توجهت إلى شيشكوف. وخرجنا بدورنا إلى الحديقة.
يحل المساء، وتهبط الظلمة والسكون على الحدائق وجنود المشاة على جانبي الطريق وتحت حواف مظلات البيوت يمسكون البنادق بين أذرعهم وكأنهم يمسكون بأحبائهم في أحضانهم، وقد تمددوا على الأرض ويفكرون بصمت في الغد.
نمت في تلك الليلة في خيمة شيشكوف المسؤول السياسي، ولم تكن الدنيا قد أنارت عندما أيقظني. خرج شيشكوف من الخيمة، ثم عاد مرة أخرى ثم قال بصوت خفيض وكأنه يهمس:
- أصوات طائرات.. ألا تسمع؟
- أسمع.
ضوضاء طائرات تمر عبر سماء كرانسوي تخلع قلوبنا. يصمت شيشكوف ويستمع. إنه يتلمس مستقبله في هذه الأصوات، يتحدث عن مستقبله وربما يبكي بحرقة وأنا بدوري أنظر بهدوء وصمت إلى شيشكوف. لا يتكلم. يطفئ سيجارة ويشعل أخرى. وكأني أفهم ما يفكر فيه عبر تدخينه السيجارة.
كما أني أحس بالتضاد البالغ بين تفكيره وتفكيري. أحاول ألا أنظر إلى شيشكوف. أغضب من وجودنا معاً في خيمة واحدة. إننا شخصان، جد مختلفين. كلانا من خميرة مختلفة ومن دم مختلف لا نستطيع أن يذوب بعضنا في بعض، فلماذا نكون في نفس الخيمة؟ أحس برغبة جارفة في أن يكون سليمان بجواري، ما زال شيشكوف يدخن السجائر وما زالت الطائرات ترنّ في سماء كرانسوي. أغلقتُ عينيّ فرأيت أمي، ودموعها تنزل من على خديها المتغضنين. ورأيت بكراً بقلنسوته الجركسية. ورأيت والدي وقد انحنى ظهره، وأخذت أطوف في حدائق القرية وفي مروجها، في حدائقها التي تشبه الجنة. في بساتيننا. ها هي ذي الأشياء التي أعيش لها. هذه هي الأشياء التي تجعلني أقف على قدمي. وتربطني بالحياة في ظل هذه الظروف. شيشكوف! انزع هذه الأمور من قلبي! وألقها أرضا! ضعها تحت الأقدام.. في ذلك الوقت أصير وجوداً بلا حياة ولا إحساس، أصبح رجلاً عديم القيمة.
تشرق شمس حمراء ملتهبة خلف حدائق كرانسوي. يخرج شيشكوف من الخيمة، بعد أن يترك بابها مفتوحاً. أبدو وكأني أسعد - ولو قليلاً- عند خروجه من الخيمة، وابتعاده. ما زلت في دوامة ذكريات قريتي.. أنظر إلى السماء التي تشبه، في نظري، الصينية. وأتذكر الشمس المرتفعة الزرقاء خلف جبال آيي ضاغي في أوقات الصباح التي كنت فيها آخذ الحيوانات إلى المراعي في قريتنا. الشمس نفس الشمس. لكن دفء الأرض التي تضيئها تلك الشمس جد مختلف، كما أن تنفسها مختلف. إيفان ألكسندروفيتش شيشكوف يدخل الخيمة. ينظر ببطولة. لكن الخوف واضح في هذه النظرات.
- بكم جندي رجعت يا طوران؟
- بسبعة.
- أين هم؟
- في الحدائق.
وبإشارة إلى الأسلحة المتجمعة في الناحية الأخرى قال:
- أعطهم سلاحاً، إننا ندخل التل الذي كنا بالأمس، وبعد ساعة واحدة ستبدأ مدافعنا في الضرب.
سلّحنا الجنود. وأخذنا الطريق إلى التل. شوارع كرانسوي خالية صامتة، وكأن كل الحياة قد انسحبت إلى تحت الأرض. تظهر فوهات البنادق من جوانب الحدائق، ومن الحفرات. وأحياناً تزحف مجموعة من الجنود كالثعبان تحت حواف أسقف المنازل. ويختفون وراءها. وهناك، خلف التلال، تتجه فوهات المدافع المرابطة تحت أغصان الأشجار الخضراء، تتجه نحو السماء، وتتجمع جنود المدفعية في الحفرات، خلف المدافع. يعكر صفو المكان بين الحين والحين صوت حركة دوران المحركات. وبين الحين والحين يترامى إلى الأسماع صوت أوامر حازمة وقصيرة، وكلما تقدمنا نحن، بدا السكون. بدا الخوف. يذكرني سكون كرانسوي هذا، بغابة بدائية مليئة بالوحوش. أما الجنود فيذكرونني بحيوانات مفترسة، وفهود وابن آوى. وقد عزم كل منهم أن يصارع الآخر ويمزقه.
نحن الآن - وبعد نصف ساعة - على تل الأمس. ينظر شيشكوف إلى ساعته ويقول:
- بعد خمس دقائق ستبدأ مدافع سليمان في الانطلاق.
يقول شيشكوف هذا، وهو يضع منظاره المعظم على عينيه، وينظر نحو التل، الذي فيه مدافع سليمان.
تمددت منكفئاً بجانب إيفان ألكسندروفيتش وأنا أتصور الدقائق ساعات. الدقائق تغرس ثوانيها مثل الإبر في قلب الإنسان. أنظر الآن إلى التل وأتخيل سليمان أمام ناظري. أود التواجد بجانبه. أرى نفسي مذنبا. ينظر إليَّ سليمان وكأنه إنسانٌ، محسوبة دقائقه. لماذا لست بجانبه؟ يقول الكوميسير شيشكوف ببطء وكأنه يهمس:
- انظر جيداً! سليمان سيطلق النيران.
- أسليمان فقط؟
- مدافع سليمان فقط.
- والمدافع الرابضة في حدائق كرانسوي.
- الهدف هو تجميع نيران العدو على سليمان، وبالتالي إعطاء الفرصة لفصائل مشاتنا، أن تستوي على المرتفعات الواقعة أمام الغابة. إذا استمر تبادل إطلاق النيران، بين مدافع سليمان ومدافع العدو داخل الغابة نصف ساعة، لانتهى الأمر. إني أفهم جيداً، أفهم تماماً هدف الكوميسير شيشكوف. أترك المنظار المعظم وأضع رأسي على الأرض الدافئة بشمس الصباح، وأدعو:
- اللهم احفظ سليمان وجنوده. اللهم احفظ مواطنيّ. اللهم احفظ عبيدك الصادقين!
تبدأ مدفعية سليمان عملياتها. صخب جهنمي.
يرتفع الدخان الملون في صدر الغابة السوداء. ثم أنين مدهش ومرة أخرى، ضربات وحشية تخنق الأنين. وبعد ثلاث دقائق تحولت الغابة إلى بركان. يضرب شيشكوف يده على كتفي في انفعال. ويقول:
- أحسنت يا سليمان! أحسنت أيها التتري! آه! مادوليتس. آه مادوليتس سليمان.
تبدأ المدافع الرشاشة في الحدائق الكائنة على سفح كرانسوي في الخلف. تبدأ في موسيقاها.
- تراتا - تا.. تراك - تا - تا - تا - تا.
وبين انطلاقات المدافع الرشاشة التي تطول أحياناً وتقصر أحياناً أخرى. يأخذ جنود المشاة، المنطلقون من الحفرات، في الهجوم، ما زالت الغابة كالبركان تنفث حممها ولهيبها، لماذا - ولا أدري- أجد نفسي مسروراً؟ جنود المشاة يختفون بين المحاصيل الصفراء يجرون نصف منحنين من الشمال ومن اليمين. الغابة تعوي كما لو كانت تنيناً جريحاً، فترتفع الأنفاس الملتهبة من صدره إلى السماء وكأنه حيوان اهتاج خوفا من أن يموت.
ترتفع طائرتان خلف الغابة وتطيران نحو التل الذي توجد فيه مدافع سليمان. سليمان ينظر نحو الطائرتين، وفجأة تتجهان نحو كرانسوي. وبعد لفة تقومان بها فوق كرانسوي تعودان مرة أخرى إلى مدافع سليمان. وبينما هما تطيران فوق التل تميل إحداها وتسقط داخل الغابة، ومع الضوضاء العظيمة يرتفع دخان شديد السواد من الغابة نحو السماء ويرتفع اللهيب معقوداً في انثناءات من داخل الدخان، ترعد مدافع سليمان بسرعة أكثر وكأنها تصفق لهذا النجاح.
وبعد نصف ساعة بالضبط تسقط أول قذيفة ألمانية أمام التل. إيفان ألكسندروفيتش يقول ومنظاره المعظم على عينيه ينظر بتركيز إلى الغابة، ويقول:
- آها. لقد رد الألمان.
وبعد دقيقتين انطلقت القذيفة الثانية من وراء التل، حبسنا أنفسنا، شيشكوف وأنا، ننظر إلى موقف سليمان. القذيفة الثالثة أصابت الجناح الأيسر. نيران سليمان تخف قليلاً. وبصوت خفيض يقول شيشكوف وكأنه يتحدث مع نفسه:
- الكلاب يأخذون سليمان مقصّاً.
أريد أن أفهم معنى هذا، ترتفع بعد ثلاث ثوان أو خمس ومن وراء التل، ستارة من نار ودخان فظيعة. وكأن هذا الحريق لن يخمد ولن ينتهي. يقول شيشكوف:
- ها هو ذا ما يسمونه مقص نيران.
- من خلف التل وحتى السماء، تختلط حمم النيران مع قطع مختلفة من الأرض. أنظر إلى الأمام، يبدو شيشكوف وكأنه يتحدث مع نفسه ويستمر في حديثه قائلًا:
- إلى هنا انتهى أمر سليمان. لن ينجو أحد هناك.
- ألا توجد وسيلة قط، أيها الرفيق الكوميسير؟
- لا! لا توجد أي وسيلة، يا طوران.
يشير إيفان ألكسندروفيتش إلى التل الذي يقع أمام الغابة، ويقول:
- هل ترى هذا التل؟
- نعم.
- أظن أن النيران تأتي من خلف ذلك التل. ولا بد أن تكون مدافع هجوم العدو، متمركزة خلف ذلك التل، ولا بد للقضاء على نيرانهم، من عبور كل حقول المحاصيل، هناك تل صغير على الشمال قليلًا من التل. هل تراه؟
- نعم، أراه.
- أظن أن مؤخرة هاونات العدو تظهر من ذلك التل الواطئ. لكن ما بيننا وبين التل أكثر من كيلومترين. هل تستطيع أن تذهب إلى مدى كيلومترين على ركبتيك ويديك ومن بين الزرع؟
يرفع النظارة المعظمة من على عينيه. أجبته بقولي:
- هذا خطر لا داعي له. سليمان ما زال تحت النيران. والنجاة من هناك أمر صعب. تسود بيننا فترة صمت قصيرة يخيل إليَّ أن سليمان، وهو بين النار والدخان وأعمدة التراب، ينظر إليَّ بعينيه الحمراوين ويطلب النجدة. يداي وقدماي ترتعشان. إني خائف. لا أخاف الموت، لكني أخاف على سليمان. أخاف من عدم جرأتي. حتى لو وصلت لمساعدة سليمان أخاف أن يصيح بي غاضبًا ويقول:
- أين كنت حتى هذا الوقت؟ لماذا لم تسرع إليَّ فورًا؟
لا أشعر بالراحة، سليمان في قلبي، يتحدث معي، يستدعيني، وأخيراً أدير وجهي نحو شيشكوف، وأقول:
- ائذن لي، أيها الرفيق الكوميسير بالذهاب.
يضحك الكوميسير شيشكوف ويكتفي بهز كتفيه ليقول:
- اذهب!
أنزل من التل زاحفاً. يأتي معي جريشة وهو يجري في نصف انحناءة. يحدثني وهو غاضب مني.
- عمَّ تحدثت مع الكوميسير؟ إني سمعتكما. أنت لا تحبني. أنا أعرف هذا. لأني كافر. أليس كذلك؟ لكني ولدت في القرم. إني أحب القرم، وأحب التتار. لهذا فأنا ذاهب معك قد تموت وأحيا، وقد أحيا وتموت، أيها الملازم سليمان أنا أيضاً رفيقك.
يكبر في أعماق قلبي حب. والآن، وأنا أكتب هذه السطور أتذكر جريشة وأتذكر معه المرحوم أحمد اوزباشلي.. إن شعب القرم باقة ورد تتكون من زهور مختلفة.
يلحق بنا شيشكوف وهو يوجه نحوي زجاجة خمر، وهو يقول:
- خذ هذه يا صادق، فستلزمك.
آخذها منه. ننزل من التل. نعبر القصب. وقبل أن ندخل في الحقل المزروع، أقف على ركبتي عند حافة الأغصان والأعشاب وأمد الزجاجة إلى جريشة. يظهر في عيني جريشة الانفعال والسرور.
- آ- آ- آ! خمر الراقي!! أنت مسلم؛ وبالتالي فإنك لا تشرب الخمر. نعم أنا أعرف هذا.
يأخذ الراقي من يدي ويختفي بين أعواد القصب. أما أنا فلا زلت جاثياً على ركبتيّ أمسك التعويذة التي أعلّقها في رقبتي وأدعو قائلًا:
- يا رب! اللهمّ احفظنا! فإنك تحفظ عبادك المخلصين يا رب.
كانت الشمس حامية. نتقدم - وعلى يميني جريشة - على أربع، على ركبنا وأيدينا وبين الحين والحين يقف جريشة ويتحدث مع نفسه وأحيانًا يهمس بأغنية.
أقول له: انتبه يا جريشة! لا ترفع رأسك كثيراً.
لا تخف سيدي الملازم. الألمان لا يرونني. انظر!
يقول هذا وهو يريني بعض أغصان، جافة أوراقها، يضعها فوق رأسه. وفي كل فتحة أزرار من ملابسه، تظهر نباتات صفراء. وهو نفسه، يزحف كما لو كان أغصاناً جافّة. وأحيانًا يقف ليمسح عرق وجهه، ويمد إليّ زجاجة الخمر قائلاً:
- اشرب أنت أيضًا يا سيدي الملازم.
أرفض. إنه يريد أن يسقيني خمر الراقي بإصرار. فالسكير لا يخشى الموت! أقول له:
- لا يا جريشة. أخفِ خمر الراقي.
يوافق. ونتقدم. وبين الحين والحين أرفع رأسي، وأنظر إلى التل الذي فيه سليمان. نيران العدو خفّت قليلاً، مرة أخرى. لكن كل جسمي يرتعش عندما أتذكر أوضاع أصدقائنا.
نصل إلى حافة الحقل المزروع. نصعد إلى تل شديد الخضرة، مستوٍ، وصغير، نقف. أمسح عرقي، وأقول لجريشة:
- هل أنت مستعد؟
يزحف جريشة ويتقدم نحوي، ويقول بصوت خافت، لكنه منفعل:
- أنا مستعد يا سيدي الملازم. مستعد. لكن لا ينبغي أن نذهب سويّاً، فالأرض مكشوفة، والخطر ماثل، أذهبُ أنا في البداية، ثم تأتي أنت.
يقول جريشة هذا، ولا ينتظر جوابي. ينطلق. يتقدم. وبسرعة البرق يجتاز الساحة المستوية ليرقد على رابية التل. تنقطع النيران فجأة وأنا ما زلت بين الزرع. يلف المكان صمت ثقيل وعميق. أرفع رأسي أحيانًا، وأنظر إلى التل الذي يتواجد فيه سليمان مع المدفعيين. دخان بارود مختلط بالأرض، ارتفع بطول السرو، يلتف حول نفسه، ثم يسقط على الحقل المزروع. يرقد جريشة بجانب مدفعه الرشاش وكأنه ميت بلا حراك. لا أستطيع السيطرة على ركبتيّ. وفي هذه الآونة بالضبط يدير جريشة وجهه ناحيتي، ويشير بيده نحوي أن آتي. وبنفس السرعة أعبر الأرض المستوية وأتمدد بجانب جريشة فيقول لي وكأنه يهمس:
- هل ترى؟
- نعم. أرى ثلاثة مدافع هاون، للعدو، في المساحة المستوية الواقعة بين التل الذي على اليسار وبين الغابة. وعلى كل مدفع ثلاثة جنود، أو خمسة. أغلب الجنود جاثٍ على ركبتيه وبعضه واقفٌ على قدميه. والبعض الآخر منهم في حركة يجرون جيئة وذهاباً. يحملون صناديق الذخيرة من الغابة. ألمس بيديّ المرتعشتين مدفعي الرشاش ومكان الرصاص فيه. ينظر جريشة نحو الألمان بصمت وهدوء. أما أنا فلا أستطيع رؤية وجهه لأني في الخلف. أسأله بهمس:
- هل أنت مستعد يا جريشة؟
يدير رأسه نحوي، وببسمة تظهر منها أسنانه البيضاء يقول:
- أنا مستعد.
فأصدرت الأمر بإطلاق الرصاص.
ضجة قصيرة، متكسرة، وحشيّة، يسقط على الأرض فجأة: ألمانيان كانا يقفان على قدميهما بجانب مدفع الهاون الخامس. وأصيب اثنان في رأسهما. لا يستطيعان الحراك. سيل طلقات مدافع، ثانيتان من الصمت، ثم سيل طويل من طلقات المدافع. أخذت الدهشة هؤلاء الألمان الذي يعملون على مدافع الهاون الأخرى، فهربوا يجرون نحو الغابة. في هذه الأثناء يحصد جريشة أجسام البشر بمدفعه الرشاش كما لو كان يقوم بعملية حصار. أنسحب أنا إلى الوراء قليلًا. نسي جريشة كل دنياه وهو يحمل هذه اللعبة الجهنمية. فمن ناحية يطلق النار بلا توقف، ومن ناحية أخرى يصيح بي قائلًا:
- اذهب أنت! اذهب من هنا.
أترك جريشة وأجري نحو التل الذي فيه سليمان مع جنوده المدفعيين. أحس بغاية السرور لتصوري أني سأنقذ سليمان، وبهذا الفرح سأعاتب سليمان معنّفًا فأقول له:
- أنت طفل. ما لك وللحرب؟ ما عليك إلا أن تمسك أمك من ذيل ملابسها وتسير معها.
سأسخر من سليمان. إني أقترب من التل. لا أحد بجانب المدافع الرابضة خلف التل. ترى هل تركوا المدافع وهربوا؟! إني على التل. الآن، أرى المدافع بوضوح أكثر. ها هي ذي فوهة مدفع منتصبة وعجلات مدفع منفصلة ترقد على بعد أربعة أو خمسة أمتار بعيدًا عن المدفع. أنزل من على التل. أبحث عن البشر. لا أجد أحدًا. أتقدم نحو المدفع الآخر. إني بعيد عن المدفع بخمسة أو عشرة أمتار جثة! اثنتان ثلاث. أربع جثث. أتوجه نحوهم. وجوههم بشعة. أين الآخرون؟ يلف المكان سكون عميق.
أقف. أستريح. الموتى بجانبي وكأنهم يستريحون معي. أنين يأتي من بعيد. صوت طويل وغريب. ينقطع الصوت أحيانًا. يأخذ بعد ثانية أو اثنتين في إصدار أنينه "أو - و - ف. أو - و - ف".
أجري نحو الناحية التي يصدر عنها الصوت. جريح تغرق ساقاه في الدم، ويرقد بجانب مدفع مقلوب. أتوجه إليه أجثو على ركبتي وأسأله:
- أين قائدكم؟
فيشير بيده ويقول:
- لا تتركني. لا تتركني أيها الملازم! إما أن تنقلني أو تقتلني.
- لا تخف. لا تخف. سأنقلك أنت أيضاً. أين قائدكم؟
يمد يده مرة أخرى:
- ((هناك. لكن لا تذهب أنت إلى هناك. سيقتلونك. لا تذهب!" يبدو أن الجريح لا يدري ما يقوله جيداً. أنظرُ إلى ما حولي. يعلق بناظري صندوقان خشبيان على بعد خمسة عشر متراً. يشير الجريح إلى الصناديق.
- هناك. لا تتركني أيها الملازم.
وأخذ يردد هذا متوسلاً.
أترك الجريح وأذهب نحو الصناديق. تخرج من بين صندوقين قدمان بحذائهما أقترب. أرى الآن بوضوح أن الحذاء حذاء ضابط. قلبي في صدري يدق مثل اللكمة.
أهو سليمان؟ أقلب الصناديق. يرقد ورأسه تسبح في الدماء، مقلوب على وجهه على الأرض بين صندوقين. ثمانية من الموتى يرقد بعضهم بجانب بعض كما لو كانوا مصطفين؛ وعلى بعد حوالي ثماني خطوات أو عشر من جثة سليمان. أتوجه نحوهم. يا أيتها الأمهات والآباء الذين على قيد الحياة وتبكون الآن قائلين: ((أين أنت يا بني!" إن كاتب هذه السطور قد أغلق بيديه في ذلك اليوم عيون أبنائكم الجميلي الصورة: حسن الآق مسجدي، ومحمد الدُوَوانكويلي وكريم وخالد الأوسكوتلوي وزكي الأوزان باشي وحسني اليالطوي وبكر وعثمان الكوزلووي.
نقلت جثة سليمان إلى جانب جثثهم. بكيت وأنا جاثٍ على ركبتي كثيراً عليهم. ولا أدري كم من وقت استغرقه بكائي. أفقت على صيحة من بعيد، على صوت أجش كان يصيح بي قائلاً:
- يا أنت! عد إلى حيث أتيت! هيا! سريعاً!
رفعت رأسي ونظرت إلى حيث الصوت رأيت هناك على بعد حوالي خمس وعشرين خطوة فوهة بندقية. نهضت على فوهات بنادقهم نحوي وينظرون إليَّ بحدة وغضب. يوجه واحد منهم القول إليّ. نفس الصوت السابق يصيح بي مرة أخرى ويقول:
- ابتعد أيها التتري الأسود! وإلا جعلت منك جثة عفنة تجد مكانها بجوارهم. اذهب وقل للمسؤول السياسي إن الحرب قد انتهت بالنسبة لنا.
لا أعي بما يحدث من حولي. طارت رصاصة تئز من تحت أذني، بينما كنت أسير نحو الجنود الموجودين في الحفر، فسريعاً ما انبطحت أرضاً. أطلَقَ الصوت الذي أمامي الشتائم الطويلة لي. وإذا بأزيز رصاصة أخرى عقب الصوت اختباتُ في المزارع بعد أن زحفتُ إلى الخلف ونحو التل الذي تركتُ فيه جريشة. كنت أتقدم وأنا منحن. وعلى يساري رأيت عينين ناريتين في رأس التصق شعره الأسود بجبهته التي تنضح بالعرق يحملها جسد نحيل. ولو كان الوقت ليلاً لخطر ببالي أنه رأس ذئب. كان هناك شيء حيواني هائل في هذا الوجه الطويل، في نظرات عينيه الغريبتين اللامعتين. وسرعان ما حركت يدي نحو مسدسي وقلت:
- من أنت؟
- أنا من رجالك يا آغا.
- هل أنت قيرغيزي؟
- نعم واسمي قليج باي.
- هل أنت جريح؟
- لا.
- كيف نجوت؟
جلس على الأرض وحكى لي وهو ينظر أمامه بعينين دامعتين:
- بمجرد أن فتح الألمان نيرانهم، تركت المدفع وهربت وأقسمت ألا أحارب من أجل الروس الكفار. لماذا أحارب من أجلهم يا آغا؟([2]).
- اشرح لي كيف مات قائدك؟
- كنت أشاهد الموقف من هنا. لم يمت القائد من نيران العدو، يا آغا. في بداية إطلاق النيران مات أبطالنا المسلمون. وعندما خَفّت نيران العدو قليلاً، قام الصديق القائد بجمع جثث الموتى في مكان واحد. ثم تمرد الروس الذين بالجناح الأيسر وأطلقوا النيران على القائد. حاول البحث عن ملجأ يختبئ فيه. وكان كالحيوان أمام الصياد وقد حوصر من كل جانب. فاختبأ بين صندوقين فارغين. وهناك أطلقوا الرصاص عليه فحصدوه حصداً.
كانت كل كلمة من كلمات قليج باي القيرغيزي تنغرس في قلبي كأنها الخنجر؟
- ولماذا لم تسرع لنجدته؟
- وماذا كان في يدي أن أفعله يا آغا؟ ماذا كان يمكن أن أعمله؟ لم يكن هناك شيء في يدي، حتى السلاح!
سكت. ثم دفن رأسه بين كفيه.
- والآن سأتحمل أنا ذنبهم.
أخذ قليج باي يبكي باختناق وكأنه طفل اقتربت منه ووضعت يدي على كتفه. أثّرت فيَّ دموعه قدر تأثير موت سليمان والآخرين. وبينما ننظر كل منا إلى الآخر، إذا بقذيفة تنفجر في التل الذي تركت عليه جريشة. نظرت إلى التل. أرى بوضوح جريشة وهو ينزل إلى أسفل التل مهرولاً. وقبل أن يختبئ في المحاصيل، انفجرت طلقة أخرى على يمينه. يتدحرج جريشة على الأرض، ثم يقوم ليجري مرة أخرى، نحو الحقل المزروع. قذيفة أخرى على يساره قذيفتان. ثلاث. أربع. يختفي جريشة بين الدخان الملون والأراضي المرتفعة في الجو. لكن النيران لا تستمر طويلاً جريت مع انقطاع النيران، نحو جريشة، نبحث عن جريشة في الحفر التي أحدثتها القذائف. يرقد في إحدى هذه الحفر غارقاً في دمائه كم كبرت عيناه الصغيرتان وكم أصبح وجهه القبيح جميلاً! مسكين جريشة! ما زال حتى الآن حتى هذه اللحظة يأتي لكي يقف أمام عيني. رأسه بين ركبتي. ينظر إلى عيني ويقول:
- أنت جئت يا سيدي الملازم. جئت. أنا سأموت. أموت.
بدون تفكير كبير خلع قليج باي قميصه ولف به ساقي جريشة، ربطت حزامي على القميص وحملنا جريشة إلى كرانسوي. لقينا عربتين تابعتين للصليب الأحمر تتقدمان في طريق مترب. في إحداهما ترقد جثة مغطاة الوجه بالتبن. يعبث البعوض بالدم المتجمد في قدميها العاريتين المنتفختين المزرقتين.
وكان السائق يلف سيجارته كما لو لم يكن يرانا. سألته عن المستشفى فأشار برأسه إلى منزل صغير مسقف بالتبن واطئ، في داخل الحدائق على الجانب الأيمن. وعند خروجنا إلى الجانب الآخر من الطريق رأيت شيشكوف، يخرج من الحديقة ويتقدم نحونا، كان بجانبه عدة ضباط لا أعرفهم، قال:
- من الجريح؟
- جريشة. الذي أتى معي.
ثم نظر شيشكوف إلى قليج باي وقال:
- من هذه الحشرة السوداء؟
- إنه من فصيلة سليمان.
- أهو فقط الذي نجا؟
- نعم. هو فقط.
وسلمنا جريشة إلى رجال السلاح الطبي وذهبنا إلى القائد. إن الدفاع عن كرانسوي قد ظل بين كل مذكراتي أدمى فاجعة في الحرب.
([1]) تكلم! تكلم!.
([2]) آغا: لفظة احترام عند مسلمي تركستان تعني الموقر، المبجل، المحترم.
عدل سابقا من قبل المدير العام في السبت يناير 18, 2014 6:53 pm عدل 1 مرات
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha