انتقل والدي في صيف 1943 من (آق مسجد) إلى القرية، وقبل أن ينتقل إلى القرية، كنت أنا قد دخلت القرم في إجازة وأنا أرتدي البذلة العسكرية الألمانية، ولم يكن لذلك أي داع. ماذا يفعل الآن هذا المسكين؟ ترى هل ألقى به الروس في غياهب السجون؟ ولو كان في السجن فعلاً فلن يستطيع تحمله وسيموت فما بال أمي المسكينة؟ أين هي يا ترى؟
أريد أن أترك الحياة وأهرب. ولكن إلى أين. إلى أي مكان. لن أقعد هنا وحيداً لا أستطيع الحياة هنا. لم أعد أنا صادق القديم. ماذا حدث لي يا ربي؟!
يعاودني صداع في رأسي ويوجعني!
تمر أمامي فتاتان إيطاليتان، شقراوان تعلو المساحيق وجهيهما، تطلقان القهقهات، وكل منهما في ذراع زنجي أمريكي. تسمع روما الصامتة قهقهاتهما. أستغرق في التفكير. تباً لك يا روما! يا أيتها المدينة الكبيرة، البيضاء الرخامية. أنت وكل الحياة معك، تحت أقدامهما، إذا فقدتا واحدا، تجداًن الآخر، وهما فرحتان. لكنك تعرفين كيف تخبئين في نفسك اضطراب الزمان، دون أن تبكي، وعليّ أنا بدوري ألّا أبكي! لا بد أن أظهر بمظهر المعتز بنفسه مثلك. ذلك لأني لم أخسر، لأني لم أسلم هذا الوطن الأخضر إلى أعدائي إلا بعد أن سكبت من دمي ما سكبت.
يرخي الظلام سدوله. الشوارع تظلم. تصدح أصوات الموسيقى من النوافذ المفتوحة في المطاعم. تتجمع أصوات الموسيقى لتفيض على جوانب المكان. أنهض لكي أعود إلى الفندق وعندما وصلت إلى تمثال إيمانويل الخامس، أتت كتلة بشرية قادمة تموج، كأنها نهر قد فاض. أرتعش. السبب في هذا على ما يبدو هو أنني ذهبت منذ يومين إلى السينما، فعرضوا قبل عرضهم فيلم جاري كوبر، عرضوا فيلماً؛ فرش أمام العيون، معسكرات (بلسن) الجماعية بمآسيها الفظيعة، كنت مضطراً لأن أخفي رأسي في الكرسي، من عظم خوفي، عندما رأيت على الشاشة آلافاً من الناس يرقدون في حالة موت وقد برزت عظامهم وظهرت. تمتم إيطالي سمين، يجلس على الكرسي الذي بجانبي، ببعض أشياء. ربما كان يشتمني. وها أنذا الآن أرى الناس الذين يتجهون نحوي كأنهم آلاف الهياكل العظمية النحيلة النحيفة. وقد تخلصت فجأة من لفائف السلك المحيط بمعسكرات (بلسن).
ومن شدة فزعي صعدت على درجات التمثال الحجرية كأن سيلاً من الناس، يفيض أمامي ويصيح قائلاً: يحيا السوفييت، يحيا ستالين! ثم مضى السيل البشري فنزلت الدرجات الحجرية. رأسي متعب. نفسي فارغة. عدت إلى الفندق؟
لا أستطيع هذا المساء أن أكتب مذكراتي. ماذا لو فعلت هذا غداً؟!
جريشة كالاتشوف: صياد من (آلوتشا). متوسط الطول. عريض الكتفين أحمر الوجه أزرق العينين، أشقر الأهداب والحاجبين والشعر، فيبدو كأنه المحصول. كان يفخر باسمه وكان يقول لي من أدراك أن دماء تتارية لا تسري في دمي؟! أمن الممكن أن يسمّونا (كالاتش) هكذا هباء وبلا سبب؟!
أحسستُ، خاصة بعد أن انصرفت من عند سليمان والشباب القرميين الآخرين، بأحاسيس رقيقة في قلبي - لا أدري مصدرها - تجاه هذا الروسي الأشقر. وعندما نظرت في عينيه الزرقاويين اللتين لا توحيان بأي معنى بدأت أشعر بأنَّ حبي له حب خالص. لم يكن يتحدث عن نفسه أبداً. كان إنساناً بسيطاً. عندما اتجهت إليه نهض سريعاً؛ ووقف على قدميه وأخذ وجهه الأحمر يزداد حمرة. كان يريد بكل قلبه أن يصبح صديقاً لي. كنت أقول له:
- اجلس يا جريشة! اجلس! كلانا قرمي، وسنكون صديقين.
كان يجلس ليأخذ رأسه بين كفيه ويقول:
- إيه! يا آلوشتا! آلوشتا! لصالح مَنْ هذه الحرب.. لو لم تكن هذه الحرب، لكنت الآن في بلدتي آلوشتا، أصيد السمك وتكون أنت أيضاً في القرم. فما ضرورة الحرب لك، ولي، يا صديقي القائد؟!
كنت أرد عليه قائلاً:
- صحيح. صحيح، يا جريشة. لكننا سندافع عن الوطن.
- وطنك ووطني إنما هو القرم. على كل حال سأذهب أنا إلى آلوشتا.
- وماذا تفعل يا جريشة لو استولى الألمان على القرم.
- لا فرق، يا صديقي القائد، الألمان أيضاً ديُّوثون، وكذلك إخواننا الروس.
- لا تقل هذا لأحد غيري يا جريشة! احذر! وإلّا يخفوك في السجون.
- لا تخف! أنا لا أقول لأحد غيرك. أنا أعرفك. لكن لماذا أخاف؟ أنا أيضاً.. ألست قرميا؟
وبلغته التتارية التي يكثر فيها اللحن يأخذ جريشة مكانه أكثر فأكثر في قلبي.
وبعد أسبوع منذ تحركنا من آق قرمان نزلنا من القطارات في قرية بأوكرانيا الغربية. كانت هناك بعض أمور فهمنا منها أننا اشتركنا في اللواء الذي يحتل الجبهة في الغرب.
الجنود المتعبون يعلوهم الغبار وقد طالت لحاهم، يرقدون تحت غطاءات أسقف البيوت التبنية. سيارات الصليب الأحمر في الحدائق، الفرسان يسوقون جيادهم في غير انتظام. الجرحى من الجنود يرقدون في عربات الفلاحين. والضباط غارقون في العرق يهرولون من مقر قيادة إلى مقر قيادة أخرى.
وبينما كان الجنود يقومون بإنزال دباباتنا من القطار، كنت أنا قد توجهت إلى القيادة التي نصبت خيمتها في الجانب الآخر من القرية. كل مكان ممتلئ بالجنود. المنازل والطرق، والحدائق، بحثت عن سليمان لكني لم أجده. تبدو خيمة القائد وكأن الضباط من أصحاب الرتب الكبيرة قد احتلوها. قال لي ضابط خرج الآن من الخيمة:
- هل أنت صادق طوران؟
- نعم أنا.
- إذن فلقد جئت في الوقت المناسب فقائد الكتيبة يبحث عنك.
دخلت الخيمة ووقفت أمام قائد الكتيبة وقلت:
- الملازم صادق طوران قائد فصيلة الدبابات! وأنا تحت أمر سيادتك أيها الصديق القائد!
كان قائد الكتيبة روسيّاً طويل القامة، ذا شارب أبيض مبروم مثل قرني الثور، سليماً مثل شجرة السرو، يبدو خشناً لكنه ليس بقدر ما يقول به مظهره، كان يُسَرّ، عندما يصافح الضباط الأصغر منه رتبة من الذين يعملون تحت إمرته. ولم تنسه الحرب، عادته هذه، كما كان لا بد أن يحدث، فقد صافحني أيضاً يداً بيد، وقال:
- كم دبابة في الفصيلة يا طوران؟
- ثمانية يا صديقي القائد.
- هل كلهم ب 27؟
- إنها لا تغني كثيراً في الحرب. أليس كذلك؟
- نعم أيها الصديق القائد.
- أعلم أنها لا تغني شيئاً كثيراً ولكن ليس لنا من حل آخر.
جال القائد بنظراته الكدرة بين الضباط الآخرين من ذوي الرتب الكبيرة ثم تبادلوا جميعاً النظرات فيما بينهم.
- لا أستطيع إمداد الجنرال ماكسمينكو، بغير هذا، وفي رأيي أن الذهاب بكل الكتيبة إلى جبهة (كوتوفكس - بالكا) لنجدة ماكسمينكو معناه ترك كرانسوي، مفتوحة أمام الجناح الأيمن للفرق الألمانية المتقدمة نحو الجنوب. إن هذه المسؤولية ضخمة.
- إن ماكسيمنكو يصارع العدو الآن بالبنادق والسلاح الأبيض، لأنه منذ يومين لا يملك دبابة واحدة، ولا حتى مدفع.
- لو استطاع الصمود، لا لثلاثة أيام، ولكني أقول أسبوعاً، ولو انطلقنا بكل قواتنا لنجدته، فإني واثق من أننا لن نستطيع كسر السلسة الفقرية للقوات الألمانية المرابطة بين يالطا وكوفوتسك.
- أتنكسر هذه القوات في خطّ (بوك) ؟
- ربما لا تنكسر أيضاً في خط بوك، لكن عمودها الفقري قد ينحني ولا يستطيع خط دفاعنا الطبيعي في كرانسوي أن يوقف الهجوم الألماني لكنه قد يستطيع أن ينقذ ماكسيمنكو عند مفترق كوفوتسك - يالطا. فِرَق العدو تركت كرانسوي وستتجه نحو فوزنس نسك.. يعني إلى ماكسيمنكو ...
انحنى القواد على الخريطة الموجودة فوق صناديق الذخيرة. وبعد أن شاهدوا على الخريطة، المواقع التي يتحدث عنها قائد الكتيبة؛ اعتدل القائد واستدعاني إلى جانبه.
- اذهب يا طوران إلى الدبابات. كونوا بجانبها، يجب ألا يبعد أحد عن الدبابات وانتظر أمري.
خرجت من الخيمة وعدت إلى حيث تقف الدبابات.
علمت في اليوم التالي، أن كل المدفعيين الذين مع سليمان قد خرجوا مع إيفان الكساندروفيتش شيشكوف الموجه السياسي للفرقة، خرجوا من فرونسنسكي ويتقدمون نحو كرانسوي. وتلقيت صباح أول سبتمبر أمراً بالتقدم نحو جبهة كوفتسك - يالطا، بثماني دبابات. تحركنا فوراً، وسرنا طوال اليوم وسط سكون تام، القرى فارغة وصامتة وكأن الحياة قد اختبات تحت الأرض، حتى الحيوانات لم يكن لها وجود. وقبيل الغروب فقد بدأت من على اليمين ومن على اليسار سيارات نقل الجنود تسير بسرعة كبيرة. الجنود والضباط في هذه السيارات يلوحون لنا بأيديهم بغية إخبارنا بشيء. كان بعضهم يريد أن يقول لنا بإشارات يديه أن ارجعوا! أما نحن فكنا نواصل تقدمنا. كنت بمفردي في برج الدبابة كلما نتقدم في الطريق نجد أن الطريق قد زاد ازدحاماً. كانت عربات المدافع ثم الجنود المشاة يتقدمون ومن بعد تأتي سيارات النقل. الضباط يركبون عربات الفلاحين. والجرحى والضعفاء كانوا بلا أسلحة، ورؤوسهم بيضاء يلتحفون بالقماش الدامي. كان الفرسان من ضمن الذين يمرون في هذا الازدحام. كان بعضهم يسخر منا فكانوا يصيحون بنا قائلين: ((أإلى برلين تذهبون!!".
بعد نصف ساعة، أصبح الطريق مزدحماً إلى درجة أن لو ألقيت إبرة من فوق، لم تكن تسقط على الأرض. زحام من الناس والجياد والعربات تتدفق وسط صيحات نحو الخلف إلى كرانسوي. أخرجنا الدبابات من الطريق إلى السهول وتقدمنا. كانت أصوات المدافع تأتي من بعيد، وكأنها أصوات طبل يدف في منازل أغلقت أبوابها. توقفنا. كانت أمامنا غابة ضخمة سوداء. كنا أحياناً نسمع قصف المدافع يأتي من اليمين. وأحياناً من الشمال. تتصادم طلقات المدافع مع الأصداء المقتطعة من صدر الغابة ثم كانت تختنق في أعماق الغابة مرة أخرى. كان الجنود في أبراج الدبابات السبعة التي تتعقب دبابتي ينظرون نحوي في دهشة.
- الجاويش واسيليف! بجانبي!
- الجاويش ما سيليف! إلى جانب القائد!
- الجاويش واسيليف! إلى جانب القائد!
صوت ضجة الدبابة التي في المؤخرة. وبعد دقيقتين اقتربت دبابة الجاويش واسيليف بجانب دبابتي.
- واسيليف!
- أوامرك أيها الرفيق القائد!
يزأر مدفع خلف الغابة، على اليسار صوت مجموعة من الأوزّ في حقل قصب بجوار منزل مسقوف بالتبن، يضرب الأوز أجنحته ثم يطير خلف رابية. قال لي واسيليف:
- إن هذه قد سقطت قريباً بعض الشيء.
- على مسافة كم بالتقريب؟
- خمسة أو أربعة أيها الرفيق القائد. يبدو أننا نندفع نحو فوهة العدو. ماذا لو لحقنا بالفصائل المنسحبة؟!
- أنا لم أستدعك بجواري لكي آخذ رأيك.
- نعم أيها الرفيق القائد.
- قُدْ دبابتك. تقدم إلى مسافة حوالي خمسمائة متر أمامنا. وأبلغني بما ترى.
- سمعاً وطاعة أيها الرفيق القائد.
ومرة أخرى أثارت دبابة واسيليف البسيطة البريئة المرتسمة في عينيه الشابتين، أثّرت كثيراً في أحاسيسي الداخلية.
- يا واسيليف! أتخاف الموت؟!
لم يصل صوتي إلى واسيليف بفعل الضجة التي أثارتها دبابته.
- م أسمع أيها الرفيق القائد.
- قلت لك أتخاف الموت؟!
- الموت؟
- تخاف؟
- ياه! الإنسان يولد مرة واحدة في العمر، ويموت مرة واحدة. إما الآن وإما فيما بعد. ما الفرق؟
- خذ مني سيجارة قبل أن تموت. وحذار أن تظنّ أنني إنسان سيء!
قذفت بعلبة سجائر إلى برج الدبابة تلقفها واسيليف ودفعها إلى جيبه.
- أشكرك.
- قلت لك سيجارة واحدة فقط!
- انطلق جريشة والمدفعي الذي بجانبي، في القهقهة.
- شكرا لهذا أيضاً.
أخذ سيجارة من العلبة ثم قذف بالعلبة إليّ.
- مع السلامة.
ظلام خفيف يجثو على المكان، توقفت أصوات المدافع فجأة. الدبابات التي في الخلف تأخذ طريقها بتثاقل، مع مسافة فيما بين بعضها والبعض الآخر، يبلغ حوالي خمسة عشر متراً. كنت في برج الدبابة. تقدمنا في هذا الوضع حوالي نصف ساعة. كان على اليمين وعلى الشمال وكذلك أمامنا: دخان أسود مختلط باحمرار الأفق، يأخذ طريقه إلى السماء. وكأن الحرب كانت تأتي -بكل فظائعها- من هناك ثم تقدم إلينا.
سمعت صوت جريشة يأتي من أسفل.
- أيها القائد.
- ماذا هناك، يا جريشة؟
ونزلت من البرج إلى أسفل. قال المقاتل وهو يمد لي سماعتيه:
- الجاويش واسيليف.
وضعت السماعتين على أذني، فسمعت صوت واسيليف، دقيقاً غير متواصل.
- آلو. آلو! قوات العدو ترابط في الغابة المقابلة. أسرعوا. أسرعوا.
- آلو! الجاويش واسيليف، أتسمع يا واسيليف؟
- نعم أسمع، أنا.
وفجأة انقطع صوت واسيليف.
- واسيليف، واسيليف!
صوت واسيليف لا يصلني عبر السماعتين، أصوات ضجة مستمرة لكنها لا تنبئ عن شيء قط.
- جريشة! خذ الدبابة إلى اليمين. بسرعة خذها إلى التل الذي خلف أرض القصب.
وقبل أن أكمل كلامي إذا بصوت ينفجر كأنه بركان، الشيء الذي لا أستطيع أن أنساه هو: عينا جريشة الخضراوين مثل النار تنظران إليّ بينما رأس جريشة بين ركبتي. وعندما عدت إلى وعيي كان الجزء الخاص بالموتور في الدبابة ينفث في وجهي ريحاً فيها النيران مخلوطة بالدخان. فتح جريشة غطاء الدبابة ونصف جسده خارجاً وأخذ يصيح قائلاً:
- اهرب يا حضرة الملازم، لا تبقَ هنا! اهرب.
خرجت من الدبابة وبينما أنسحب إلى مائة متر نظرت نحو دباباتنا الأخرى من داخل الزرع الأصفر، فإذا برجال المدفعية الألمان وقد أخذوا يصبون نيرانهم متواصلاً على الدبابات السبع لمدة نصف ساعة، ورويداً رويداً أخذت النيران تهدأ. وبين الحين والحين كانت الشظايا تنفجر فوق رؤوسنا.
وصل جريشة زاحفاً وقال، بلغتنا، التي لا يحسنها تماماً:
- أنت أُصبت، يا حضرة الملازم؟ أُصبت كثيراً؟
- لا يا جريشة.
- انظر! يوجد دم هنا.
- أمسكت بخدي. كان به جرح لا أدري كيف حدث ولا أحس بوجع منه. فكرت قائلاً إن هذا أول قبلة من قبلات الحرب، مسحت يدي في بنطلوني. قال جريشة وهو ما زال ينظر إلى وجهي نظرات غريبة:
- أنت انجرحت! أنت كدت تموت.
- لم يحدث شيء هام يا جريشة. لا يموت الإنسان من جروح صغيرة مثل هذا الجرح، هل نجا أحد غيرنا؟
- نعم. اثنان هناك. ثلاثة هناك. لا أدري هل ثمة جرحى أم لا؟ مات كل من لم يخرج من دبابته. كلهم ماتوا.
وبعد نصف ساعة وصل الجاويش واسيليف. احترقا حاجباه وأهداب عينيه، كان يضحك رغم أن وجهه وعينيه يبدو فيهما الجهد والإعياء. حتى هو، لا يدري كيف خرج من الدبابة المحترقة وكيف نجا. كان يقول لقد أنقذني الله يا سيدي القائد؟ هل ينجو الإنسان وهو وسط النار! ها أنذا قد نجوت. بعد ذلك سأكسر دماغ من يقول إن الله ليس موجودا. وبعد ساعة، تركنا دباباتنا التي أصبحت خردة، ولحقنا بأفرع الجيش المنسحب بسبعة مدفعيين، بقوا على قيد الحياة، من سبعة وعشرين مدفعيّاً.
لماذا ألقوا بي بهذه الثماني دبابات إلى نيران مدافع العدو؟ كنا حسب الأمر الذي تلقيته، سنلحق بقوات ماكسيمنكو التي تتخذ وضعها في الكيلو الأربعين من كوتوفسك - يالطا. دمّرتنا المدفعية الألمانية في الكيلو السادس. ماذا حدث لقوات ماكسيمنكو؟ أين كانوا؟ لا أدري.
شمس حارقة رغم الصباح. نتوجه إلى كرانسوي. كانت هذه المنطقة قبل عدة أيام تموج بالحياة أما الآن فالمساكن خالية من سكانها وصامتة. المحاريث الصدئة وأحراش البيوت. عجلات العربات. أبواب الحدائق نصف المغلقة لعدم دخول أو خروج أحد منها.
هناك عند جداًر حديقة، كلب أبيض لكنه قذر، أخذ ينظر إلينا بهدوء، وقد رفع أذنيه وهز ذيله، كما لو كان يعرف أصحابه القدامى. كان للكلب نظرة غريبة. الجاويش واسيليف على يميني وكان يعض على شفتيه النحيلتين بين شعر لحيته السوداء وشاربه الكث، يضحك ويقول:
- لو لم نكن فقدنا الدبابات لأخذت ذلك الكلب معي. ها نحن ذا نتحول إلى جنود مشاة. لا يستطيع الكلب تحمل ما يتحمله المشاة.
أما جريشة الأشقر فلم يكن يائساً وكان يقول:
وما أدراك، لعل القوة ذات السبعين طنّاً قد وصلت!
- افتح فمك في الهواء جيداً. لو تركنا الألمان أحياء حتى وصول ذلك فاشكر الله على سميط المشاة.
جريشة على يساري. لا يظهر في وجهه الغارق في الوحل والتراب غير عينيه الخضراوين وشفتيه الحمراوين. لا يفارقني. كان يجري أحياناً حتى لا يتخلف عنا. في فمه سيجارة لم تشتعل بعد. ليس مع أحد منا كبريت وسيجارته في شفتيه؛ منذ أكثر من ساعة، قضم نصفها بأسنانه وتفلها. وأخذ نصفها الثاني في فمه ينقلها بين جانبي فمه، ويقول:
- طالما أنني لم أجد نارا لأشعل سيجارتي، طالما أنني لم أسحب نَفَس دخان؛ فلن تعرف الراحة إلى نفسي سبيلاً.
يتحدث الجاويش واسيليف من الناحية الأخرى ويقول:
- خرجت من النار منذ قليل فلماذا لم تشعل سيجارتك منها أيها الرجل؟ إذا كان لا بد من النار فاذهب إلى الألمان فسيقدمون لك النار.
- هذا مخ روسي، أيها الجاويش، الأرض كثيرة والخبز قليل، عساكرنا كثيرة وليس لدينا دبابات، عندنا السيجارة وليس لدينا كبريت، لو كان كل شيء على ما يرام لما كانت روسياً روسياً.
يتجرأ الشباب على الكلام بحرية، بعد أول رائحة تخرج من النار والبارود. قبل أسبوعين فقط، من كان يستطيع التحدث هكذا؟ أيقظت الحرب على ما يبدو، الحرية الكامنة في قلوبهم، كما أيقظت أحاسيس الحرية الشخصية. أتظاهر بأني لا أسمع كلامهم لكني مسرور في داخلي أن قلبي يحتاج إلى وضوح. من يدري فلعل الحرب تحمل إلينا أياماً طيبة. على اليمين وعلى اليسار، وفي الحدائق مجموعات من الجنود، ومدافع تحت الأشجار مغطاة بأغصان خضراء. هنا وهناك عربات المطابخ، يخرج منها دخان. وخلف الحدائق وعلى التلال يحفر الجنود الحفرات. تمر بجانبنا أحياناً عربات النقل العسكرية والغبار يخرج منها. يبدو أنهم يقتربون من كتائبنا. ومن بين الحديقة التي أمامنا خرج ثمانية أو عشرة أشخاص. كلهم لحاهم طويلة وملابسهم ممزقة كلهم نحيل وحالهم يرثى له، يحاولون السير. لا أدري من هم، لكنهم لا يشبهون الجنود الحمر. أياديهم خلفهم مربوطة جيداً بوثاق. أغلبهم حفاة، وجوههم مثل وجوه الموتى ناصعة البياض. لكن في عيونهم جميعاً ثقة. أمامهم وخلفهم جنود المخابرات الروسية ببنادقهم وحرابهم، يدفعني الشعور بالاهتمام، فأقترب منهم وأسأل أحد الجنود المسلحين:
- أين يا رفيق قيادة كتيبة الدبابات رقم 94؟
- اذهب من هذا الجانب على هذا الطريق مقدار نصف ساعة على يمين الطريق في داخل الحديقة.
أقول له وأنا أنظر إلى هؤلاء الناس المغلولة أيديهم من خلف:
- من هؤلاء؟
- ضباط بولندا الأسرى.
- إلى أين تذهبون بهم؟
يبتسم الجنود ابتسامة قبيحة ويقولون:
- إلى القصبة.
فهمت من هذا أنهم يسوقونهم إلى الموت، فأتألم من أعماقي.
- وأي ذنب اقترفوا؟
يضحك الجنود مرة أخرى. أفهم من ضحكاتهم الماكرة ومن البرق الذي يقدح لحظة في أعينهم، أفهم أعماقهم وكل وحشية هذه الأعماق.
- أقليل من أعدمناه منهم؟ أعن ذنب اقترفوه تسأل؟
إذن لا سؤال لي عن شيء. يدخلون الحديقة. يختفون عن الأعين بين خضرة الأشجار.
التفت إليَّ رجالي يسألونني عن شيء. لا أفهم بل إني حتى لا أستمع. في أعماقي ألم ألمّ بي، هز كل جسدي وتسلل إلى مخي. أنظر إلى وجه واسيليف ثم إلى وجه جريشة. وجهان نضران متعبان بريئان. يأخذني تفكيري فأقول لنفسي إن هذه الأمة - أرادت أم لم ترد- لا بد أنها ولدت وفي قلبها الخيانة والظلم.
نتقدم. وبعد نصف ساعة نصل إلى حديقة كراز أسود على الجانب الأيمن من الطريق الذي نسير فيه، وندخل الحديقة.
وأمام الخيمة يقف مسؤول سياسي برتبة بكباشي. إنه شخص سمين بعض الشيء، احترق وجهه من الشمس وازبدت شفتاه من الصياح. إنه يفهم، وغالباً من ملابسنا، أننا نأتي من الجبهة، عيناه لا تفارقنا. يتفحصني بنظراته من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ثم يقترب منا. ما زال ينظر إليَّ. وفجأة فتح ذراعيه وأخذ يتكلم:
- صادق طوران! صادق طوران!
إيفان ألكسندروفيتش شيشكوف، يعانقني. في هذه الأيام المرّة من الحرب، أحتاج على ما يبدو إلى وجه أعرفه. لقد سرني أن يستقبلني شيشكوف بهذا الشكل. إنه كما هو، طولاً وعرضاً وجسماً. تفصح عيناه عن السعادة. وأيضاً عن الألم. يمسك بيده اليسرى بندقية بلا غمد موضوعة في حزامه المشدود إلى وسطه ويضع يده اليمنى على كتفي.
- قرم جوك، قرم جوك! إنهم ساقوك بلا معنى ضد الألمان بدباباتك هذه. لكني كنت واثقاً أنك ستنجو من هذا.
لم ننج كلنا يا رفيقي المسؤول السياسي.
- لا عليك. ليست هناك حرب بلا موتى، هيا تعالى لندخل خيمتي، فإني لا أستطيع رؤية وجهك جيداً.
صاح بالجندي الواقف بباب خيمته:
- يا ميتكا! هات ماء للملازم. بسرعة! تحرّك!
الجنود يتمددون على ظلال أشجار الكراز الأسود المحيطة بالمكان. ينظرون إلينا بانتباه. ندخل الخيمة. يحضر ميتكا الماء. ولأول مرة منذ خرجنا من آق قرمان أغسل بالصابون يدي ووجهي.
يسألني شيشكوف:
- هل أنت جائع؟
أنظر إلى الدجاجة المطبوخة الموضوعة على صينية خشبية في يد ميتكا.
- هل أنا جوعان؟ أهذا سؤال؟
جلست على صندوق الذخيرة وأخذت في التهام الدجاجة كما أخذت أفكر في أشياء وأنا أنظر إلى طرف حذاء إيفان ألكسندروفيتش.
- ماذا أفعل أيها الرفيق الكوميسير بدون جنود ولا دبابات؟
أخذ يتحدث معي كما لو كان يود بيان صداقته لي.
- انظر! إني أعرف أنك وكذلك سليمان من الضباط ذوي المستوى الممتاز. وكان أملي فيكما كبيراً في مدرسة أوديسا. كما أن قائد الكتيبة كان يثق بكما. وعند وجود مثلك ومثل سليمان في الكتيبة فلن تُسَوَّد وجوهنا أمام الحزب وأمام الأمة كلها.
أمال رأسه ونظر إلى البندقية وقال:
- لقد تلقينا ضربات من الألمان، من الحدود وحتى هنا. لكن كفى. يجب أن تكون هنا نهاية لهذا. كرانسوي آخر نقطة يا طوران. إذا لم نتماسك في كرانسوي فأهون علينا، أن يقتل بعضنا بعضاً بالرصاص. جيشان ضخمان خلفنا انسحبا إلى الدنبير. إن وجود جيشين في يدنا يا طوران ...
بينما كان شيشكوف يتحدث بهذا، كنت أنا أشرد بذهني، وأفكر فيما بيني وبين نفسي وأقول:
- ماذا لو يسّر الله دخول الألمان موسكو في مدى أسبوعين!
يقف شيشكوف على قدميه. يده على بندقيته دائماً. يذهب ويجيء في طول الخيمة.
- ما أخبار سليمان؟
- نفس السؤال أردت أن أسألك إياه أيها الرفيق المسؤول السياسي.
رأيت سليمان، آخر مرة في آق قرمان.
- تعال وسأريك شيئاً.
نخرج من الخيمة وتركب سيارة الكوميسير المسؤول السياسي شيشكوف، ونتقدم في طريق مترب كثير الحفر غير مُعبّد. كل مكان ممتلئ بالجنود. استعدادات في كل مكان حديث وصياح وضجة, ينظر شيشكوف إلى الاستعدادات التي تقام في المنطقة. وأنظر أنا إلى وجه شيشكوف. وجه متكدر جداً. إن مقصده الخفي الذي فهمته من عينيه في آق مسجد، لم يكن بعيداً عني في هذه اللحظة. يسري هذا القصد في داخلي. يتخذ هذا السريان أحياناً، شكل الخوف. أريد أن أبدأ حديثي عن الجنرال ماكسيمنكو الذي تولى الجبهة فيما بين كوتوفسك - يالطا. وعندما ذكرت اسم ماكسيمنكو كنت كالذي لمس جرحاً في داخل شيشكوف. يضغط على ضروسه، وينتفخ في جبهته الحمراء عرق في سُمْك الإِصبع، ومن بين أسنانه أخذ يقول:
- ماكسيمنكو! ماكسيمنكو! إنه خان الوطن وانضم مع مائة وخمسين ألف جندي إلى الألمان. إن المكان الجدير به ليس الأسر فقط. بل تحت الأرض، بل نضعهم أمام الناس في الميادين العامة ليلقوا جزاءهم.
أريد أن أضحك. الجنرالات ينضمون إلى العدو! والجنود يسخرون بالمسؤولين السياسيين في الجيش. أيمكن أن يحارب جنود مثل الجاويش واسيليف وجريشة؟ لو وجد هؤلاء الفرصة المناسبة لا بد أن يهربوا. أريد أن أضحك. أريد أن أنظر إلى شيشكوف؛ وأطلق قهقهة. منذ متى من الوقت، والسيطرة الروسية البلشفية التي أدخلت الرعب في قلوبنا، تسير وتستمر؟ ها هي ذي تسقط أمام أعيننا.
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha