سمعنا صياح صوت مقطع مبحوح بين الألمان. وقف الألمان. ماجت صفوف الأسرى واختفى الأرمني بين الألمان. وبعد فترة فتحت أبواب المعسكر. ودخلنا بسكون إلى الشتالاك أومان رقم (2) . وضع الألماني الذي يقف بجانب الباب، في كفي قطعة خبز حجرية تبنية مثل الطوب. وتزن خمسين جراما. وتقدمنا من شارع موحل واسع يقسم سقائف المعسكر الضخم, إلى جزأين. وكل سقيفة محاطة بالأسلاك الشائكة. والروائح العفنة الكريهة تنبعث من السقائف ذات الأبواب المفتوحة. الأنَّات واضحة. ما ألعن هذه الروائح! إنها تصيب معدة الإنسان بالغثيان الفظيع. في تلك الدقائق يتبدل حالي بشكل غريب، كنت أريد أن أقع في بئر لا قرار له، وأنمحي من الوجود بكل أفكاري.
وأخيرا وصلنا أمام السقيفة رقم (5) كل مكان محاط بالأسلاك الشائكة فتحت الأبواب ودخلنا إلى الميدان الكائن أمام السقيفة. ومع أن السقيفة كانت خالية تماماً، إلا أن الشرطة الأوكرانية- وبأيديها العصيّ- تقذف بنا فوراً إلى الداخل. تقدم واحد منهم بعد نصف ساعة وقرأ علينا تعليمات الشتالاك وهو يضرب سوطه المبروم على حذائه:
((واحد- سيحصل كل أسير يومياً، على خمسين جراما من الخبز. اثنان- لن يسمح بالاقتراب أكثر من خمسة أمتار من أسلاك المعسكر، وسيطلق الجنود الألمان النار من فوق الأبراج، على الأسرى الذين سيقتربون من الأسلاك. ثلاثة - لن يسمح لأحد في السقيفات، بالكلام بعد الساعة السابعة مساءً، كما سيطلق الجنود الألمان النار من الأبراج على السقائف التي يسمع الصوت فيها. أربعة - ممنوع إيقاد النار أو تدخين السجائر في الظلام، وسيطلق الجنود الألمان النار من الأبراج على الذين لا ينقادون للأمر)) .
بعد هذا فتح رجال الشرطة أبواب السقائف وأدخلونا. لا أستطيع رؤية شيء مطلقا في الظلام، وبعد قليل، تعودت عيناي على الظلام بالتدريج. فرأيت السرير المغري ذا الطبقات الخشبية الثلاث. كان هناك نصف متر بين كل طبقة من السرير مع الأخرى. وبين الطابق الثالث وبين سقف السقيفة فراغ نصف متر أيضا. ولم تكن هناك نوافذ ولم يكن الضوء يدخل إلى السقيفة إلا من الفتحات الموجودة بين الخشب أو بين الفراغات الخشبية.
الطبقات السفلى من الأسرّة محجوزة. صعدت أنا إلى الدور الثالث وبعد ساعتين جاءت مجموعة ثانية من الأسرى. وعند ذلك أصبحت السقيفة مزدحمة بشكل جعل الكثير من الأسرى يقفون على أقدامهم بجانب الأبواب حتى الصباح. وجدوا لهؤلاء، في اليوم التالي مكانا ليستقروا فيه رويداً رويداً، أفقت.. ومن أحاديثهم فهمت أننا الآن في ميدان ضرب الطوب وتجفيفه وهي أماكن تابعة لمصنع الطوب القديم في (أومان). الحفرة التي نمنا فيها الليلة الماضية، كانت نتيجة لحفرها قبل الحرب من التراب المستخدم في صنع طوب البناء.
يقوم الألمان بإيداع الأسرى القادمين إلى معسكر أومان في هذه الحفرة أولاً، ثم بعد ذلك يوزعونهم على السقائف المختلفة مجموعات مجموعات حسب الموقف الصحي لكل أسير. وأسعد هؤلاء الأسرى هم الذين في السقيفتين رقم اثنين وهما تواجه كل واحدة الأخرى ، ذلك لأن الألمان يأخذون من هاتين السقيفتين للخدمة يومياً فيشغلونهم في رصف الطرق على حافة المدينة. وتلقي عليهم النسوة الأوكرانيات الخبز والسجائر أثناء توجههم لأعمال الرصف.
ثم نبدأ نفس أيامنا المظلمة الكدرة المتشابهة. أحس بالوحدة بقدر ما أحس بالجوع. وأحس باليأس مع الوحدة. ليس في السقائف أحد يفهم لغتي وليس فيهم من ينتمي إلى ديني. وكان علي أن أتعود -مع الوقت- على الجوع و على الوحدة.كنت أنام بالساعات على ظهري، أنظر من بين الأخشاب إلى السحب الرصاصية وإلى وجه السماء الذي لا لون له. أعدموا ذات ليلة شخصين كانا من كبار السن. لدى الشيوخ غالبا شجاعة تفوق ما لدى الشبان.
من السهل التحدث عن الموت بحبل في الرقبة والأقدام مرفوعة من الأرض..إلاَّ أني فكرت في الموت طويلا وأنا أنظر من بين فتحات الخشب. إنني لو اقتربت أكثر من خمسة أمتار من الأسلاك الشائكة.. فماذا سيحدث؟ في دقائق، رصاصة ألمانية. ارتعشتُ. ولم أعد أفكر في الموت مرة أخرى.
دهمنا الشتاء مبكراً، وعلى حين غرة؛ فذات ليلة جاء برد شديد، الجليد الذي بدأ في هطوله في الصباح التالي، تساقط نتفاً نتفاً طوال اليوم، أرقد وركبتاي تحت ذقني وأصابع ساقي كانت باردة جدا. والبرد القارس من جانب، والقمل المزعج من جانب، لا يتركون فرصة للإنسان أن تطرف عيناه. لقد كثر القمل جداً إلى درجة كان الأسرى الذين يرقدون في الأدوار العليا، يأخذون القمل من على أقفيتهم ملء الأكف، ويلقون بها على الأرض. وفي كل يوم: موت، وفي كل يوم مشاجرات. الأيام مرعبة وكل يوم أكثر رعباً من الآخر! وعلى أتفه الأسباب يلتحم الأسرى في معارك رهيبة فيما بينهم.
وقبيل مساء، انفجرت صيحة في الظلام:
- ...هذا اليهودي.
وكان هذا الصوت رهيباً جدا للدرجة التي قام كل من في السقيفة واقفاً على قدميه. وقبل أن أفهم مرة أخرى ماذا هناك، إذا بي أسمع صوتاً آخر يقول:
- اضرب! اضرب ابن البغي هذا. اضرب اليهودي.
وسريعاً ما تجمع في الأسفل زحام. الأسرى في الطبقات العالية يصيحون بلا انقطاع ويصدرون أوامرهم للذين في الأسفل.
- اقتلوا اليهودي! اذبحوه! اقتلوه! الحرية لروسيا. اليهود دائما هم السبب في كل ما نعانيه! اقتلوا هذا اليهودي.
وهذا اليهودي هل كان يهودياً حقاً؟ لا أدري. والناس المسعورون المتوحشون الذين في الأسفل يكيلون الركلات. ويقذفون السباب الذي ما له من نهاية لهذا اليهودي وتسمع أحيانا صوتا رقيقا يتوسل إلى جلاديه، ويقول:
- من فضلكم..من فضلكم!! أنا مريض..رقوا لحالي!
لكن القرار قد صدر.
- اقتلوا القذر!
- اقتلوا اليهودي!
سحقوا اليهودي تحت الأقدام مقدار نصف ساعة، ثم ألقي خارجاً بعد أن رفسوه بالأقدام. ومرة أخرى ساد الصمت السقيفة. ولم نكن نسمع غير أنَّات عميقة وسعال مخنوق، وفي صباح اليوم التالي وجدوا اليهودي خارج المعسكر، ركبتاه في صدره، وقد تجمد. مسكين! هل مات من الركل بالأقدام الذي حدث له بالأمس أم أنه تجمد من البرد. لا أدري. جروا بجثته إلى مكان بوسط الميدان، بقي هناك يومين وليلتين. وكان في داخل الجليد مثله مثل الجذع. واختفي في اليوم الثالث.
ينام المرضى في زاوية من زوايا السقيفة. لا أدري كيف يعيش هؤلاء الناس خلف الضباب والدخان، وفيم يفكرون؟ دائماً صامتون، وقد ركزوا نظرات أعينهم المتسعة، على نقطة ما، وكأن كل كوارث الدنيا قد تجمعت في أعينهم. لا يفتحون أفواههم ولا يتحركون. لا تخرج منهم، ولو أنهم لا يفتحون أفواههم ولا يتحركون. أحياناً يخرجون أيديهم من بين أفخاذهم التي صارت كالعصي، وينقلونها إلى أفواههم، ويقرضون، ولعدة ساعات، شيئاً، إما قطعة خشب أو عصا أو ربما أيضا قطعة صغيرة من حجر. إنهم أناس عالم آخر، ويعيشون بطريقة أخرى. ومع ذلك فالحياة لا تتركهم في حالهم يرتاحون، إنما تسحقهم. ذلك أن الموت الذي يتسلل كل ليلة إلى السقيفة، يعوي من بين الأخشاب.
يصارع بعض الناس بعضا، بجوار الموتى، وكأنهم ضباع جائعة. يأخذون ما يجدون على الموتى وعلى رؤوسهم، يسرقونه فيعرونهم، والموتى لا يشعرون بالبرد، لأن سيقانهم لا تبرد مثل سيقاننا. هذه الأجساد لم تعد تصلح لعمل شيء! حتى أن القمل يهرب من على أقفيتهم السوداء وشعرهم القذر.
يحدث أحيانا أن يشعروا بأن مريضا سيموت. فيتجمعون حوله قبل عدة ساعات ينتظرون، مثله، بصبر، يتطلعون إلى عيني المريض يترقبون لحظة موته، بل إن هناك من يتصارعون بجوار هذا المريض المشرف على الموت، يتصارعون من أجل الحصول على ثيابه بعد أن يموت.
الشتاء أيضاً ظالم، كالألمان، يلوح أحيانا أن الرياح ستنقطع، لكن البرد مستمر، ولا ينتهي. في ذلك الوقت أجد القمل أكثر إزعاجاً من البرد. أحياناً ألف الأوراق على قدمي وعلى جسدي. إلا أني أشعر بحركة القمل بين الورق وبين جلدي. والقمل أكثر إيذاء من البرد. وأخيرا أخبئ الورق في الكيس الذي معي. أستجمع نفسي وأخبئ ركبتي تحت لحيتي. أرتعش. أحاول النوم. لكني لا أستطيعه. قدماي كأنهما عنقودا ثلج. لا أستطيع النوم. استيقظت. إني راض بالرعشة التي تتولاني. لكن أتمنى أن يغشاني النوم ولو ساعة واحدة. أرضى بالموت إذا استطعت النوم...فقط، أريد أن أنام أبحث عن طريقة أنوّم بها نفسي. أوقظ في مخيلتي مدفأة تحرق ما فيها بصوت مرتفع وأقول لنفسي:
- يا صادق، أنت بجوار هذه المدفأة، أنت لا تبرد. أنت بجوار المدفأة. والبرد لا يصيب من بجوار المدفأة.
يبدو وكأن ما ألقنه لنفسي قد أثر ولو قليلا. أستمر:
- يا صادق، على ظهرك قطعة فرو. البرد لا يصيبك. نم.
نم.. أنت بجوار المدفأة أنت لا تنام. على ظهرك فرو. اسحب الفرو على رأسك. ونم.
يبدو لي مصطفى أمام عيني. يجلس مصطفى في السقيفة رقم (2) وبجوار المدفأة أجلس أنا أيضا بجوار مصطفى. يمد إلي يده بالخبز. هل هي رؤيا تلك التي أراها؟ لا.. ليست رؤيا..أنام..ألتفت إلى يميني. أين مصطفى؟ كل جسدي كالجليد..لا أستطيع النوم. ليس على ظهري غير قميص ممزق مقمل. لماذا أخدع نفسي؟ أريد أن أخلع قميصي وألف به قدمي. إذا لففت قدمي سيبقى ظهري عاريا. أفكر في مصطفى مرة أخرى. أين تراه؟ هل مات؟ هل ما زال حياً؟ ربما هو الآن في إحدى السقائف يفكر فيّ. لأنني أفكر فيه. لابد أن يكون حياً إذا لم يكونوا قتلوه. كان أقوى مني جسدا. ربما أخذه الألمان ووضعوه في السقيفة رقم (2) فقد كان أقوى مني جسدا ومادمت أنا قد استطعت تحمل الجوع حتى الآن، فلا بد أنه هو أيضاً حي..في السقيفة رقم (2) لماذا لم أكن أنا في السقيفة رقم (2)؟ متى سأتخلص من جهنم هذه؟ أنَّات عميقة تأتي إلينا من الزاوية التي ينام فيها المرضى. آه من هذا الأنين؟ إذا لم أستطع غداً الصعود إلى الطابق الثالث، والخمسون جراما من الخبز في يدي، فسأذهب وأنام في تلك الزاوية. يا ربي لا تمتني بهذا الشكل! تعوي الرياح في الخارج. يبدو أن النوم ألمّ بي يبدو أنني نمت استيقظت. توقفت الرياح. كان هناك صمت عميق في السقيفة. يصبح الصباح.. أخذت الرياح الأخشاب التي فوق رأسي، ففتحت بذلك فتحة كبيرة واضحة. عندما وقفت على قدمي وجدت رأسي خارج السقيفة. كل مكان في الخارج أبيض شديد البياض. أرى آثار أقدام في الطريق الذي يقطع السقيفة. من ذا الذي يتجول في المعسكر مبكراً هكذا؟ إما شرطي أو طبّاخ. دخان أسود يتلوى من أنبوبة المدفأة التي تخرج من خشب لصق السقيفة رقم (2) وتسقط من على أسطح السقيفة على الطريق الأبيض. ما زال الوقت مبكراً. الجو ساكن. لا أحد يراني. رأسي خارج سطح السقيفة. لم أنظر في أي وقت قط من أوقات الأسر. من قريب إلى هذا الحد، إلى الحرية. أفكر قائلا: ((ماذا لو أهرب)) يداي ترتعشان وركبتاي. يبدو الارتعاش وكأنه لن يتوقف. السقيفة رقم (2) قريبة..كل جسدي يريد الخروج مثل رأسي إلى خارج السقيفة.
- لو أهرب!
صوت من داخلي، صوت شبيه بصوتي، يجيب:
- هرب!
- لو رأوني!
- لا أحد يرى! اهرب!
- وإذا قبضوا عليّ!
- الفرصة سانحة، اهرب.
- إلى أين؟
- إلى السقيفة رقم (2)..فلعلك تجد مصطفى هناك.
- مازال الوقت مبكراً. الجنود الألمان ليسوا موجودين، داخل المعسكر. أمام كل باب سقيفة، يقف شرطي أوكراني. إنك تعرف لغتهم.. تتوسل إلهم وتستعطفهم. اِبك أمامهم قل له إن أخي في السقيفة. يفهم. ولم لا يفهم؟ تقول له إنك طباخ. تؤلف أكذوبة لا بد من وجود حل. ماذا هناك في هذه السقيفة غير الموت؟ اهرب! .
أنا في سقف السقيفة. اتخذت قراري. ولم يعد هناك تراجع. أقفز من السقف إلى الطريق. يقف شرطي أمام السقيفة رقم (5) . ترى هل رآني؟ أقيم ظهري وأتقدم. بلغ قلبي حلقومي وأنا أمر من جانب الشرطي. لكنه لا يتكلم. أمر من جانبه، وأسير. أفرح لأن الشرطي لم يتكلم. حتى قدماي لا ترتعشان. أمام كل سقيفة، جندي. لكن لا أحد منهم يهتم بي. يبدو أنهم يظنون أني طباخ أو واحد من الوحدة الطبية. والآن. أقترب من السقيفة رقم (2) يبدأ الارتعاش في تملكي. شرطي أمام الباب. ياقة المعطف الثقيل الذي يرتديه، مرفوعة، وأذنا غطاء رأسه مربوطتان جيدا تحت ذقنه. في يده عصاه، وفي شفتيه سيجارة.
أقفز في المكان الذي هو به. ينظر إلي. كنت في خوف عندما اقتربت منه، وأي خوف. ماذا لو أرجع إلى السقيفة رقم (5)؟ لا، لا .. فإذا فهم رجال الشرطة أنني هربت من الفتحة سيقتلونني ضربا..أتقدم. ماذا يجب علي أن أقول؟ لابد من إيجاد كذبة. الشرطي يرى أنني أتجه إليه. ينظر إلي وهو يركز نظراته علي. ماذا يجب أن أقول؟ إني خائف.
أنظر إلى الميدان وإلى أمام السقيفة رقم (2) المحاطة بالأسلاك الشائكة لا أستطيع رؤية آثار أقدام. يأتيني طنين من داخل السقيفة أشبه بطنين خلية النحل. أقترب أنا من الشرطي، أبحث عن آثار رحمة قد تتجلى في عينيه. وجهه الأحمر- من غير شعر ظاهر- يبدو مثل وجه الدمية. يخرج من فتحتي أنفه بخاراً يختلط بدخان السيجارة. وأنا أنظر بصمت إلى وجهه. وأبتسم كالأبله وفجأة يتفل السيجارة الموجودة بين شفتيه، يتفلها أرضاً ويقترب مني:
- تيء قودىء كالوبجيك؟
أسكت..كلمة كالوبجيك أعطتني الأمل. ماذا يجب أن أقول؟ أأقول كذباً؟ لا. إنه يبدو إنسانا طيباً، إنه هو أيضا يحمل قلباً. يفهمني. أتوسل إليه وأقول:
- أنا..أنا..من السقيفة رقم (5)، وأخي الكبير في هذه السقيفة..من فضلك، من فضلك أيها الشرطي المحترم.
لا يجيب، يضحك بطريقة قبيحة. لكني أريد أن أنكفئ على قدميه وأتوسل إليه أكثر. الشرطي يخرج إلى الطريق، ويناديني:
- أيودي صومنوي كالوبجيك، بريدي.
فأذهب إليه هو في المقدمة وأنا خلفه ونتجه نحو أبواب الشتالاك. إلى أين يأخذني؟ لا أدري، حتى التفكير لا يشغلني. أسير خلفه وأنا أجر قدمي المربوطتين بقطع القماش. نقترب من أبواب المعسكر الكبيرة المحاطة بالأسلاك الشائكة. يقف الديدبان الألماني المسلح، أمام الباب، مرفوع القامة، يذهب الشرطي إلى الجندي ويقول له بعض الأشياء، يشرح له أمراً، مستخدما في حديثه إشارات يده. ثم يستدعيني بجانبه. يفتح الجندي الديدبان، الأبواب، ويتركنا نخرج. خرجنا الآن من الشتالاك ننحرف إلى اليمين. نتجه إلى منزل صغير خشبي واطئ مربع الشكل. إلى أين يسوقني هذا؟ ليذهب بي أينما يذهب، فلن يجد مكانا يذهب بي إليه أكثر من السقيفة رقم خمسة. ليس هنا من صوت قط. وكلما اقتربنا من المنزل الصغير أشعر بالخوف. نحن الآن أمام هذا المنزل الصغير. أدعو الله من أعماقي قائلا: اللهم امنحني أنا عبدك الضعيف: القوة والشجاعة.
ندخل غرفة مربعة. ستة سرائر مغطاة ببطاطين سوداء، أمام جدرانين. في الوسط مدفأة. ومنضدة طويلة، قريبة من النافذة. وعلى المنضدة يجلس خمسة جنود يلعبون أوراق النرد الكوتشينة وبينهم واحد يرتدي البذلة العسكرية الألمانية وظهره متجه لي. يذهب الشرطي الذي أحضرني، إلى هذا الشخص، وأنا واقف على قدمي، بجوار الباب. صوب رجال الشرطة الأوكرانية الذين يجلسون على المنضدة نظراتهم جميعا ومرة واحدة نحوي وكأنهم إنسان واحد. وبينما يتحدث الشرطي إلى الرجل ذي البزة الرسمية، يقول واحد منهم لي:
- هيا استعد يا فديا فالجاويش سيكلفك بعمل.
يضحك الجميع مرة واحدة لماذا؟ لا أعرف بعد. ثم يقف واحد منهم ويتجه نحوي. إنه شاب في التاسعة عشرة من عمره أو العشرين. وجهه يذكر بفتيات القرية. كم كان جميلا. عيناه خضراوان تحيطهما هالة تميل إلى الحمرة. ينظر كالثعبان. يلتفت الشرطي الشاب إلى الرجل ذي البزة الرسمية ويسأله:
-كم مرة يا هرفيلد فيبل؟
فيقول له:
- هل يتحمل خمساً وعشرين؟
يمسك الشرطي الشاب بلحم أردافي، ويضغط عليها، ويقول:
- إنه يتحمل. إنها مليئة باللحم.
لم أفهم بعد، معنى هذا. أنظر إلى الشرطي الذي أتي بي إلى هنا بنظرات ولد ينظر إلى والده عساه أن ينقذني. ينهض رجال الشرطة الذين على المائدة ويتجهون ببطء إلى أسرتهم: يجلس الرجل الذي يرتدي الملابس الرسمية صامتا، ساكنا، وبعد قليل يدير رقبته النحيلة الطويلة التي تخرج من ياقته البيضاء كأنها رقبة ضفدعة. وعندما ينظر إلى وجهي. أحس في قلبي بكل المعاني الرهيبة التي تشعها عيناه، فأرتعش. ينطلق فجأة من مكانه. وفي عدة ثوان، يُخرج من شفتيه المزبدتين صياحاً وأصواتاً مختلفة لا أدري كنهها. الشرطي الشاب يركلنني بقدمه عدة ركلات فيدفعني إلى ناحية المائدة. والألماني ينبح بلا توقف كأنه كلب مسعور. وصلت عيناه وكل وجهه إلى درجة مخيفة جعلتني أفكر قائلاً: ((إن رغبتي في التنقل من سقيفة إلى سقيفة أخرى شيء صغير)). لكن يبدو أنني ولا بد قد ارتكبت جرما عظيما أكبر مما فعلت. يغضب الألماني فجأة ويسكت فجأة. يذهب ويجلس على حافة سرير. يشعل سيجارة. بينما يتناول الشرطي الشاب، عصا حديدية من على المائدة. يركلني مرة أخرى في ظهري ويصيح قائلا:
- اخلع بنطلونك يا خنزير!
وفي لحظة أحس كأنني أخاف. لكني وسريعا أحس بقوة في يدي وفي ساقي لا أدري من أين جاءتني. لن أطلب الصفح. فليذبحني وليقتلني.، وليفعل بي ما يحلو له، لكني لن أتوسل إليه. ومع كل أمر يصدره لي الشرطي الشاب كان يوجه لي لكمة أو ركلة.
- اقترب من المنضدة!
أرتعش. لكني ما زلت أحس بتلك القوة، أحسها في قدمي، أنزل بنطالي حتى ركبتي وأتمدد على وجهي على المنضدة. أضغط على طرف المنضدة حتى أكاد أنزعها أو هكذا أتصور. إني أخاف، لكني لا أخاف من الضرب ولا من الموت، لكني أخاف أن أموت بين هؤلاء الناس. أريد بعد هذا الضرب المبرح أن أعود إلى السقيفة رقم خمسة. وأسلم الروح بين المرضى، فالموت بينهم سهل. ويخيل إلي أنه سيكون مريحا. عيناي مغلقتان أرى الذين ينازعون الموت في زاوية السقيفة رقم خمسة. أريد أن أختلط بهم وأن أموت معهم إنهم عباد الله السعداء..لماذا لست بينهم؟ أريد أن يبدأ الشرطي ضربه وعقابه. أريد سرعة تنفيذ هذا العقاب البدني.
وفجأة، أسمع صوتا، واحتراقا في لحمي، شيء كالنار.
- واحد.
إنه يعد مع كل ضربة، بصوت منتزع من قلب ظالم.
- ثلاثة...خمسة...ستة...
أما أنا فأدعو الله في نفسي قائلا:
- يا ربي! يا ربي! يا ربي! أعطني الشجاعة.
أضغط على حافة المنضدة ويداي كالكماشة. ولا أدري إلى أي عدد وصل في عده وأخيرا صاح قائلاً:
- انهض!
سابت يداي وانهرت على الأرض وتكومت عليها.
أثناء انهياري من على المنضدة أمسكت بساقها لكي أقيم ظهري. فإذا بي أشعر وكأن برقا قد برق بين عيني. يبدو أنني أغشيت لفترة ما. ومن خلف ستارة من الضباب كنت أرى عيني الخائن تقدحان شررا. تناهى إلى سمعي صوت من رجال الشرطة الذين يجلسون على الأسرة، وهو يقول:
- دافولنو فديا! اوبيوش..اوبيوش..
نهض الألماني على قدميه وهو يقول أشياء لرجال الشرطة، فأجابوه جميعا في نفس واحد. قام الجاويش، نظر إلى حزامه وبه مسدس وكان معلقا على الشماعة ثم أخذه، لبسه، وخرج. أمرني رجال الشرطة بأن أتبع الجاويش. خرجت من الغرفة وأنا أرتعش. الألماني في المقدمة وأنا خلفه. سرنا في شارع ضيق أزيل الجليد منه. الألماني لا يتنفس بكلمة، ولا يبالي بي. سألت نفسي قائلا: ترى هل نسي أنني أسير خلفه؟ أسقط بين الحين والحين على ركبتي فأنهار على الأرض وأنا ممسك ببنطالي حتى لا يلامس جروحي، وأتقدم كالكلب في أثر الألماني. لم أكن أعلم إلى أين نسير. كان واضحا أننا لسنا متجهين إلى المعسكر. لقد أصبح الشتالاك بعيدا بدرجة واضحة. كنا نتقدم من حافة الحفرة الهائلة. كنت أظن أن الألماني سيقتلني عند الحفرة. كان هذا الشعور يتولاني كلما وضع يده إلى الخلف وأمسك بمسدسه. لكنني أيضا لم أكن خائفا لقد كنت أرى الموت حقيراً حقيراً حتى إنني لم أفكر في كيفية موتي.
تركنا الآن الحفرة إلى يسارنا، ونتقدم إلى مبنى سليم. هنا مقر القادة الشتالاك الألمان: الجنود الشبان، يذهبون ويجيئون أمام المبنى. أبدأ في التخوف. أيأخذونك إلى القيادة؟ نسير من جوار الجنود. أسمع قهقهاتهم خلفي. أصوات طلقات بنادق تأتي من خلف المبنى. أللموت يأخذني هذا الألماني؟ لا. إننا ننعطف إلى الشمال ونتقدم إلى مبنى آخر ذي منظر منتظم. ما زالت أصوات البنادق تصدر من خلف مبنى القيادة لكني أحس عندما نقترب من المبنى الآخر أنني أتخلص من الموت.. مبنى عال مربع، إسمنتي، فخم. والهدوء يلفه. هدوء يشغل قلب الإنسان. هذا المبنى بلا نوافذ ولا مدخنة لكنه بسقف، وله باب حديدي ضخم. يبدو أنه بني لسكن الإنسان. أخاف من الدخول فيه لكننا لم ندخله، الألماني يسير بجانب المبنى. يقف لحظة ثم ينزل من السلم الحجري المؤدي إلى طابق المبنى الأرضي، أنظر إلى الألماني وكأني طفل يتيم. أما هو فدائما خشن، دائما فظيع. نسمع صرير الباب الحديدي. أنهار على الأرض تحت شيء ثقيل سقط على قفاي وعندما أفقت وفتحت عيني وجدت نفسي في سجن. انتظرت وأنا أحدث نفسي قائلا: لعل الألماني يأتي ويفتح باب السجن. مرت الساعات الطوال ولا أحد يأتي. أخذت رأسي بين كفي ورحت أفكر في السجن ونقط الماء الساقطة من سقفه، والرطوبة. أقول لنفسي.. هذه هي النهاية فلم يعد خلاص من هذا المكان، وفي لحظة إذا بأمي تتمثل أمام عيني وهي تلبس رداءها الطويل الممتد من تحت فكها إلى كعب ساقيها وتحمل سيفاً في يدها. ثم إذا بردائها ووجهها أيضا يتحولان إلى اللون الأبيض الساطع البياض، ثم تختفي رويداً رويداً من أمامي. أهي رؤيا التي رأيتها؟ لا أدري. وبعد هذا لم أفكر لا في أمي ولا في وطني ولا في مصطفى. لقد تحكم البرد والجوع في كل كياني وأثر في نخاعي ومخي. كنت أرى مدفأة تحترق بصوت مسموع وعلى المدفأة إبريق وكنت أسمع صوت الماء المغلي في الإبريق، ويستمر هذا ساعات وكنت في أوقات مثل هذه الأوقات، لا أريد أن يأتي أحد ناحيتي ولا أن يزعجني. أي قوة خفية تلك التي كانت تقيمني تلك الأيام في ذلك السجن؟ ما هي؟ أكان هناك بالفعل مدفأة وعليها إبريق ماء يغلي؟..كم يوماً مكثتها في السجن لا أعلم. وفي يوم من الأيام سمعت صرير الباب، انفتح. وإذا بي أرى أمامي، الألماني الفظيع. صب من بين أسنانه صوتاً يشبه الصوت الذي يخرج من حديد مبرود:
- هيرا-را-وس!
اعتدلت، فكرر قوله:
-هيراوس!
أإلى الحياة؟ أإلى الموت؟ وإلى الباب. وصعدت السلم الحجري. هو في المقدمة وأنا في المؤخرة.كنا نتجه نحو المعسكر. لا أستطيع أن أتذكر كيف وأين تركني الجاويش الألماني. وجدت نفسي في السقيفة رقم خمسة، وفي زاوية المرضى، وسريعاً رقدت. عشر ساعات تلك التي مرت علي أم أيام لم أكن أدري. وذات يوم جاء إلى السقيفة عدة أشخاص وأخذوا يتجولون فترة بين المرضى. ثم وقفوا بجانبي. أيقظوني ووضعوني على نقالة. أحدهم انحنى فوقي وقال لي شيئاً في أذني. ولم أفهم ما قاله. لكني أيضا لم أعترض. أخرجوني من السقيفة على نقالة. لا أدري إلى أين حملوني ولا أدري شيئا عن الزمن بعد ذلك. أفقت فوجدت نفسي في غرفة دافئة. سريرها عليه بطانية وللغرفة نافذة. وفي الغرفة مدفأة. ظننت أنني أحلم عندما فتحت عيني ورأيت هذا. ما زالت جدران السجن خلف ستارة ضبابية ومازالت نقط الماء تسقط من سقف غرفة السجن وأسمع صوتها. وفجأة دخل أحدهم إلى الداخل بعد أن انفتح الباب، وصاح بي قائلاً:
- يا ولد، إني أبحث عنك في السقائف منذ يومين.
وعندما اقترب بجواري، سألني بصوت أكثر انخفاضا:
- ماذا فعلت؟ أي حال هذا الذي ألم بك؟
نظر إلى وجهي بدقة. إني رأيت هذا الوجه وهذين العينين في مكان ما. ولكن أين؟ يواصل كلامه:
- أخبرني أحد رجال الشرطة بأن الألماني حبسك. أعلم أنك قاسيت من التعذيب كثيراً. لكن لا عليك. لقد أنقذت نفسك.
أخذ ((بقجة)) من على الرف، وهي كيس به ملابس وألقاها على السرير وقال:
- اخلع ملابسك. والبس هذه الملابس. لا تقلق. واضح أنك لم تعرفني بعد. أنا الأرمني الذي تحدث معك صباحاً عند خروجنا من الحفرة، والآن هل تذكرت؟ اشرب الشاي وكل الخبز، ابق معي يومين أو ثلاثة أيام، سأجعلك تقف على قدميك. ثم - وفق ذلك - سأعطي لك عملاً. تعمل وبذلك تنقذ نفسك. أيمكن أن أرجو لك الموت وأنت قرمي؟ قلت مشتبهاً في حديثه:
- كيف هو العمل؟
- لا تشغل بالك. فأنا طبيب لكن طبابتي هنا تقتصر على المرور على كل سقيفة وأفرز الموتى بين المرضى، تأخذ أنت الموتى وتحملهم إلى الحفرة. وتحصل في مقابل هذا العمل على خمسين جراماً من الخبز. وحصتك أنت خمسين جراماً. يعني المجموع مائة جرام. هل هذا سيء؟
- أشعل سيجارة وخرج، وبقيت بمفردي في الغرفة. فكرت في الأرمني طويلاً. كنت أريد أن يتكلم معي مدة أطول وأن يتحدث معي عن القرم. لكنه لم يتكلم. وذات مساء، وقبل أن يشد بطانيته على رأسه قال:
- غداً صباحاً، ستقوم الشرطة بحمل عشرة أسرى خارج المعسكر إلى المستشفى فاذهب أنت أيضا معهم. في المستشفى أمراض كثيرة. تيفوس. وسل ودوزنتاريا. الناس يموتون كأنهم البعوض، والعمل هناك كثير.
أردت أن أسأله بعض الأسئلة، إلا أنه سحب بطانيته فوق رأسه ونام. وفي اليوم التالي وفي الصباح الباكر ذهبنا إلى المستشفى. مبنى مربع من طابقين، كان في الأصل مدرسة وهو الآن محاط بالأسلاك الشائكة. في فنائه، تتناثر نقالات ملطخة بالدماء وقف الشرطي الذي أتى بنا إلى المستشفى. وقف بجانب الباب وصاح قائلاً:
- هيا يا أبطال! إلى النقالات. سأعطي كل واحد منكم مائة جرام خبز، هذا المساء، وكذلك الحساء، هيا إلى النقالات.. هيا إلى النقالات.
وأبطالنا هؤلاء فرحوا واشتد سرورهم إلى حد لا يتصور. ينقلون الموتى من أبواب المستشفى على النقالات. الموتى كلهم تقريبا حفاة. وبلا قمصان. أفواههم مفتوحة تتدلى أيديهم الصفراء من على أطراف رسوغهم، تتدلى من النقالات. يخرج هؤلاء الحمالون بهدوء من الأبواب نحو أطراف غابة قريبة من المستشفى وبهدوء، تدخل إلى الداخل، يقوم أسير من الوحدة الطبية يرينا الطريق، تصدر من الغرفة أنات المرضى، مؤلمة. نفتح أحد الأبواب، غرفة مربعة شديدة البرودة فيها حوالي ثمانية أو عشرة أشخاص موتى..وأسير من الوحدة الطبية يأمرنا:
- هيا، بسرعة! نظفوا هؤلاء وعودوا سراعاً.
وفي أطراف الغابة حُفرٌ عميقة حُفِرت حديثاً، وهناك بعيداً عنا، فرقة من الأسرى مشغولة بحفر الحفر، نرمي الموتى في الحفرة كأننا نطرح قطعا من الخشب أو الحطب. ثم نعود إلى المستشفى. لا أحد يتكلم. والسماء، منخفضة ولا لون لها. وكأن الأرض والسماء يقيمان نفس المأتم. الدنيا صامتة، صماء، مع من تسير الحياة؟ أمع الموتى أم مع الذين يحملون الموتى إلى القبور؟
نمنا في تلك الليلة في سقيفة صغيرة في حوش المستشفى، وفي اليوم التالي قمنا أيضا بنقل الموتى إلى حفر القبور. واستمر ذلك حتى المساء. وعند المساء قال لنا رجال الشرطة:
- إن الموتى يقلون عدداً، وإن النقالين أكثر من الحاجة لذلك سيرجع أكثرنا إلى الشتالاك. بقيت أنا. وكان يبدو أن هناك ما لم أره بعد. بعد أسبوع كامل دخلنا الغرفة التي يصفون فيها الموتى.كان فيها حوالي ثمانية أو عشرة من الموتى. أكثرهم متروك على وجهه أرضاً. اثنان منهم عاريان تماما وبجوار الباب كان ميت طويل القامة، كبير الرأس، ملتح، راقد على ظهره، ولم أكن أستطيع تبين ملامحه لأن شعره الأسود الطويل قد غطى وجهه تمام. كان ذلك الميت يرقد في وضع غريب قبضتا يديه مضغوطتان، ويبدو وكأن قوة تدب في جسده الميت. كان هذا الميت يختلف كل الاختلاف عن العديد من الموتى الذين رأيتهم. لم يكن مثل أحدهم قط. أخذته بين ذراعي، وبرفق بالغ، ودون إيذاء أي موضع من جسده الميت أردت أن أرقده على النقالة.
انحنيت على ركبتي. وعندما مددت يدي إلى شعره لأكشف عن وجهه، إذا بالعرق الذي يشبه الثلج برودة، قد تجمع في جبهتي. ظهر وجه محبوب أمام عيني، واختفى وجه يشبهه. ترى أيكون هو؟ رفعت شعره فظهر وجهه. استطعت أن أقول:
- يا إلهي!
وبعد أن أفقت، قبلته من خديه اللذين صارا كالجليد، قبّلته وقبّلته، وضعت رأسي بجوار رأسه، ثم تهت أنا أيضا في ظلام عميق عميق مثل مصطفى.
- مصطفى! مصطفى! افتح عينيك يا مصطفى. لماذا لا تحرك شفتيك يا مصطفى؟!
ورفعت رأسي ببطء. كان زميلي النقَّال ينظر إليّ مشفقاً متألماً. ثم سمعنا صوت أسير من الوحدة الطبية، من خلف الباب، يقول:
- نظفوا! نظفوا! هيا، أسرعوا!
دخل نقالون آخرون إلى الغرفة. حملنا جثة مصطفى برفق على النقالة وحملنا النقالة زميلي من الأمام، وأنا من الخلف كانت السماء منخفضة متكدرة رمادية. ونتف الثلج المتساقط يبدو كأنه يربط الأرض بالسماء. لم أكن أستطيع أن أبعد عيني الدامعتين عن وجه مصطفى، والجليد كأنه النحل المتساقط على الزهرة. يتساقط على شعر مصطفى الأسود الطويل. وعلى لحيته كان كل توتر في وجهه قد راح. وبدا الحب الذي يكنه لنا، كأنه خرج من داخله وطفح على وجهه، وبالحب البادي في وجهه قد ذهب عني.. بعيدا.. بعيدا..كان يبدو سعيداً وكأنه يعرف أنه متوجه إلى عالم خليل وعثمان وجودت.
- مصطفى! مصطفى! لو أضع رأسي بجانب رأسك؟ لو أذهب معك إلى عالمك.
وإذا بصوت من داخلي يقول:
- تشجع يا صادق!
أحس أن هذا الصوت هو صوت مصطفى أكثر مما هو صوتي.
يهبط على المكان مساء ثقيل أليم. نقترب من الحفرة. أتطلع لآخر مرة إلى ابنٍ عزيزٍ من أبناء وطني.
- الوداع، يا مصطفى، الوداع..
كنت أشعر ونحن ننزله إلى الحفرة، وكأنه يسحب بيديه البيضاوين كل وجودي؛ كل روحي ونفسي.
- يا إلهي! اللهم كن في عون عبدك صادق.
القيه الآن في الحفرة. والآن. جسد مصطفى يشبه أجساد الآخرين في هذه الحفرة التي تضم عدة أجساد موتى. أخرج من جيبي تلك الرقية التي تحوي شعر عائشة العزيزة على نفسه، وكان قد أسلمها لي أمانة عندما كنا في طريق كيوفجراد أومان، وأضعها على صدره..ثم..يبتعد بعضنا عن بعض.
في صباح اليوم التالي ألقيت نظرة إلى ناحية الغابة. أهال الأسرى التراب على الحفرة التي أنزلنا فيها الأومباشي مصطفى الآق مسجدي، مساء أمس، أمطرت السماء طوال ليلة أمس، ثلجا، كل المكان يخلو من العمار..ومن الأصوات.
طلبت من الشرطي في نفس اليوم، إعادتي إلى المعسكر، وافق. فكرت كثيراً وطوال الطريق، طريق كيوفجراد - أومان، في خليل وجودت وعثمان وأنور. لم أكن أسمع أحياناً بعض أشياء كان يقولها الشرطي لي. وعندما اقتربنا من المعسكر اتضح لي فجأة: السقيفة رقم خمسة بكل بشاعتها. ولكن ماذا بيدي أن أفعله. إن المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين.
دخلنا المعسكر. نحن الآن في الطريق الواسع الذي يفصل السقائف إلى قسمين. أحشر المائة جرام من الخبز التي أخذتها في المستشفى في الكيس وأحشر الكيس تحت إبطي.
وها نحن نتقدم. أنا في الأمام، والشرطي خلفي. وقبل أن نصل إلى السقيفة رقم اثنين سار الشرطي جانبي وأمسكني من يدي، وقال:
- تعال معي.
- إلى أين؟
- إلى السقيفة رقم (2).
لا أصدق الشرطي. ظننت أنه سيأخذني إلى الألماني، وسيجعله يضربني علقة. وفي هذه الأثناء قال الشرطي الواقف أمام السقيفة رقم (2):
- ألا ترى رقم (2)؟ أيها العامل المغفل.
الباب يفتح، وأدخل إلى ساحة السقيفة رقم اثنين، وبعد قليل، ألتفت لأرى الشرطي الذي أحضرني. إنه يتجه بخطى واسعة نحو أبواب المعتقل...
عدل سابقا من قبل المدير العام في الأربعاء يناير 29, 2014 10:10 am عدل 2 مرات
الأحد فبراير 18, 2018 10:05 pm من طرف sarahmuratagha
» murat yildirim biography
الأربعاء فبراير 14, 2018 10:13 am من طرف sarahmuratagha
» حلقة كوميدية بعنوان Patron kim ?
الأحد فبراير 11, 2018 7:15 pm من طرف sarahmuratagha
» صور لقاء مراد مع مجله المرأة اليونانية
الأربعاء نوفمبر 29, 2017 2:18 pm من طرف sarahmuratagha
» ظهور جديد لمراد يلدريم بورتشين تيرزيوجلو..تفاصيل جميله بالداخل
الإثنين سبتمبر 04, 2017 1:30 pm من طرف sarahmuratagha
» لقاء جريده الصباح التركيه مع مراد يلدريم و ايمان الباني
السبت مايو 13, 2017 8:09 pm من طرف sarahmuratagha
» العشق الاسودج3
الجمعة أبريل 28, 2017 1:39 pm من طرف sarahmuratagha
» اغاني المطرب مصطفى صندل ....متجدد
السبت أبريل 22, 2017 11:17 am من طرف sarahmuratagha
» فيلم مراد الجديد
الإثنين مارس 20, 2017 11:20 am من طرف sarahmuratagha